بقلم: عبد المنعم سعيد
لم يكن الظرف الصحي في 4 يناير (كانون الثاني) 2014 عندما هبطت على مدينة هيوستن بولاية تكساس الأميركية مما يبعث على السعادة، وقد بدأ العد التنازلي لمغادرتي للحياة. ولحسن الحظ أن شهر يناير في هذه المدينة أفضل حالاً من حالتها الصيفية، حيث تتحول الرطوبة مع الحرارة إلى استنشاق الزيت الذي ربما يأتي بخاره من آبار البترول المنتشرة ليس ببعيد عن المدينة.
لم يكن هناك الكثير الذي يمكن عمله سوى التجول على الأقدام بحثاً عن أمر يثير الاهتمام، وهو ما تحقق بعد ساعات قليلة. كان هناك إعلان في كل ناصية عن معرض الآثار السعودية الذي حلّ بالمتحف الرئيسي، فلم أتردد في الولوج إليه، حيث بدا في الآثار نوع من التعويض لمصري يعيش في الغربة في لحظة تاريخية من عمره. وللمفاجأة، أن ما كان معروضاً لم يشمل فقط آثاراً سعودية خالصة، وإنما كان معها عدد من التماثيل الفرعونية التي تشير إلى حالة من التفاعل الكثيف الذي جرى بين مصر والسعودية قبل آلاف السنين. ارتفعت روحي المعنوية كثيراً، وإذا كانت هذه الآثار العتيدة قد عاشت كل هذه السنوات، فإن الدرس هو أن بقاء السيرة ربما لن يقل أهمية عن بقاء الجسد. كان ذلك قبل عام تقريباً من بدء عملية التحديث المثيرة التي جرت في المملكة خلال السنوات السبع التالية، والتي كان من أهم أبعادها دور التاريخ في بناء هوية الدولة الوطنية السعودية. الأمر ينطبق على ما يسمى «ذاكرة الأمة» التي تعدّ واحدة من أهم أبعاد الهوية، فلا توجد ذات متميزة من دون تاريخ خاص وفريد، وفي كثير من الأحيان مجيد أيضاً. فاكتشاف هذه الذاكرة من خلال الحفريات والكتب القديمة، كان المقدمة الطبيعية لتكوين الهويات من كثير من التفاصيل التاريخية التي تنسج حضارة بعينها، وهنا فإن العولمة قدمت من خلال عمليات الاستشعار عن بعد، وتكنولوجيات معرفة التربة، وكيمياء الحفاظ على المخطوطات القديمة، وإعادة إنتاجها بوسائل معاصرة وسريعة التوزيع والانتشار، قدرات هائلة لاكتشاف الذاكرة التاريخية لكل أمة والحفاظ عليها من الاندثار. متابعتي هذه الذاكرة في الإطار السعودي الحديث تنوعت ما بين المتاحف التي زرتها في الرياض قبل الجائحة، وما يرد من وسائل الإعلام، وما ينبهنا له المكتب الإعلامي في السفارة السعودية بالقاهرة والتي تحت قيادة السفير أسامة النقلي، الرشيدة عن التزويد بآخر التطورات الجارية في هذا الشأن والتي دائماً ما تكون مثيرة. وفي 11 يناير الحالي، كشفت الهيئة الملكية لمحافظة العلا بالشراكة مع جامعة غرب أستراليا، عن أن السكان الذين عاشوا في شمال غربي شبه الجزيرة العربية القديمة قاموا ببناء «ممرات جنائزية» طويلة، وهي عبارة عن مسارات رئيسية مُحاطة بآلاف المعالم الجنائزية التي كانت تربط بين الواحات والمراعي وتعكس درجة عالية من الترابط الاجتماعي والاقتصادي بين سكان المنطقة في الألفية الثالثة قبل الميلاد. لم يكن ذلك هو الاكتشاف التاريخي الأول في المملكة الذي يشير إلى عمق الحضارة في شبه جزيرة العرب، والتي بُنيت قبل وقت طويل من حضارات أخرى، من بينها الحضارة العربية الإسلامية.
ولعل الظاهرة ليست جديدة تماماً بالنسبة لمصري، فقد سقطت الذاكرة التاريخية لمصر تماماً فيما يتعلق بالجزء الأكبر من تاريخها الذي حدث خلال الفترة الفرعونية وما تلاها من عصور حتى جاء شامبليون وفك عقدة اللغة الهيروغليفية، وبالتالي عادت ذاكرة كاملة لثلاثة آلاف ومائتي عام من التاريخ المكتوب والمدون. ولكن الأمر لم يتوقف عند هذه النقطة؛ فقد أعاد عدد من العلماء الغربيين أكثر من ألف وستمائة عام من عصور ما قبل التاريخ إلى الذاكرة المصرية مرة أخرى، وهو ما دونه بتفصيل شديد عالم مصر العظيم سليم حسن في موسوعته عن التاريخ الفرعوني، والتي أعيد نشرها مرة أخرى مؤخراً في إطار مشروع مكتبة الأسرة، وجاء فيه جهود دي مورجان الفرنسي الذي قام بحفريات وأبحاث عن العصر الحجري في مصر، وتبعه بوقييه لا بير الفرنسي أيضاً وركز على العهدين الحجريين القديم والحديث، والأستاذ ينكر الألماني الذي أضاف الكثير من المعرفة عن الفنون والصناعات التي كانت متداولة في مصر في عصور ما قبل الأسرات، وبعد هؤلاء جاءت قائمة طويلة من العلماء لكي تكتشف حضارات متكاملة قامت في مناطق مصرية ما زلنا نعرفها حتى اليوم مثل البداري والكوم الأحمر وأبو صوير والفيوم، وفيها كان فجر البشرية يبزغ على العالم وينقل الإنسان من حالة أحد روافد المملكة الحيوانية إلى حالة المملكة الإنسانية القادرة على ترويض الطبيعة وصناعة الحضارة.
هذا النوع من الاستمرارية الحضارية، سواء كان ذلك في الحالتين المصرية والسعودية، أو في حالات عربية أخرى، يشكل جذور الدولة الوطنية الحديثة وهي تتقارب مع العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين بكل إنجازاته الإنسانية والتكنولوجية. ولأن ذلك يشكل عملية متجددة دائماً فليس مدهشاً أن استمرار الاكتشافات التاريخية الجديدة، والاحتفاء بها كما جرى في مصر في احتفال «طريق الكباش» ومن قبله نقل المومياوات من المتحف المصري إلى متحف الحضارة. وبينما كان كل ذلك جزءاً لا يتجزأ من بناء «الجمهورية الجديدة»، فإن ما يماثله في السعودية يظهر بقوة المسار الحديث والمتجدد لما أشرت إليه في مناسبات سابقة بالتأسيس الثاني للدولة السعودية. التأسيس الأول كما هو معلوم هو التسجيل لاستقلال الدولة السعودية ضمن الحدود الراهنة في عام 1932 كواحدة من نتائج الحرب العالمية الأولى من ناحية، والنهضة التي قام بها المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود الذي وحّد المملكة من ناحية أخرى؛ وجعلها مركزاً للعالم الإسلامي من ناحية ثالثة. كان التوحيد عملية سياسية في الأساس، حيث يكون استخدام القوة العسكرية امتداداً للسياسة بوسائل أخرى؛ وكان الحَرمان الشريفان في مكة المكرمة والمدينة المنورة هما جوهر الدولة التي علمها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والسيف رمز للإرادة والقدرة في ثوب أخضر.
التأسيس الثاني للمملكة والذي كانت له إرهاصاته في عهود سابقة، شكّل نقلة كبيرة اعتباراً من عام 2015 قام على ربط ما هو منفصل بالمسافة، وما هو مشترك بين البشر من جذور تاريخية وتجربة إنسانية تقوم على التفاؤل البشري في التعامل مع المستقبل والارتباط بماضٍ لا يخص فئة أو جماعة. وما جرى خلال السنوات الخمس الماضية من اكتشافات أثرية في أركان المملكة كلها لافت للنظر، وإعدادها ليس فقط لكي تكون مزارات سياحية، وإنما لكي تكون تراثاً لكل المواطنين، يعود تاريخ المملكة ليس فقط للعصور الإسلامية المجيدة، بل أيضاً إلى عصور أقدم تشهد على وجود الحضارة في عهود موغلة في التاريخ. الدولة الوطنية الحديثة هي تلك التي تتجسد هويتها في استمرارية تاريخية تتجاوز الحدود والأزمنة، تربط ما بين المواطنين، وتدفعهم جميعاً في تآلف لتحقيق التقدم.