بقلم: عبد المنعم سعيد
عرف عالم الفكر كثيراً من التعبيرات، مثل «الطفولة اليسارية» و«الطفولة الثورية»، التي تشير دائماً إلى حالة من التهافت الشديد الذي يأتي إلى أفكار نبيلة نتيجة التبسيط الشديد من قبل أنصار يأخذون الفكرة من حوافها، ويفقدون عمق شمولها وما تتيحه للتفكير في الشأن الإنساني بأبعاده المتغيرة. «الليبرالية» واحدة من أهم المدارس الفكرية العالمية التي أثرت في مسار البشرية انطلاقاً من حرية الفرد لتنظيم المجتمعات والدول، وانطبق عليها ما جرى للأخريات من تطبيقات تراوحت درجات نجاحها وفشلها أيضاً؛ لم تكن مستثناة من هذه الحالة الطفولية، التي تبدت خلال الفترات الأخيرة من تبادل السلطة في الولايات المتحدة، حيث كان الانتقال من الفلسفة القومية للأميركيين البيض للرئيس دونالد ترمب، إلى نوع من الليبرالية لإدارة الرئيس جوزيف بايدن، التي يتنازع نقاءها تيارُ التقدميين على اليسار، الذين يريدون تطبيقها تطبيقاً حرفياً، خاصة خارج أميركا، وتيار آخر على اليمين، أقل صخباً، يرى أنه لا يزال هناك كثير على الولايات المتحدة في داخلها لكي تصل إلى المثال الليبرالي الأصيل الذي يبعد المسافة بين الدولة والمواطن. التنازع بين التيارين قديم، قدم الثورة الأميركية وتاريخها الليبرالي والديمقراطي، بعد ذلك كان عليه أن يمر بنتائج الثورة الفرنسية والخوف من تسلل مبادئها للحرية والإخاء والمساواة إلى الساحل الأميركي، إلى الحرب الأهلية الأميركية (1860 - 1865)، حتى إصدار قانون الحقوق المدنية في ستينات القرن الماضي. الرئيس بايدن كما هي العادة لممثل الحزب الديمقراطي حاول الإمساك للعصا من منتصفها، فتكون النتيجة هي تلك الحالة من «الطفولة الليبرالية» التي تحاول تقسيم العالم إلى ديمقراطيين وسلطويين؛ بينما تتجاهل في نفس الوقت التعامل مع القضايا الجوهرية للعنصرية و«الجائحة» في الولايات المتحدة. التقسيم التعسفي في الخارج قاد إلى أزمة أوكرانيا الدامية حينما شعر كل من الصين وروسيا بضرورة مراجعة نظام دولي لا يهتم كثيراً بالظروف الداخلية لبلدان العالم وتطورها الاقتصادي والاجتماعي التاريخي. وفي الداخل جرى التراجع في شعبية الرئيس وحزبه لصالح الحزب الجمهوري، بينما تجد أميركا نفسها في مواجهة هي الأهم والأكثر خطورة منذ انتهاء الحرب الباردة.
النتيجة ليست إضافة معامل جديد للانقسام الأميركي «الديمقراطي» و«الليبرالي» الذي لم يجد مجالاً لفحص فشل تطبيقات الليبرالية والديمقراطية رغم «العولمة» التي قادتها أميركا طوال العقود الثلاثة الماضية حتى في أوكرانيا التي لم تفييدها كثيراً ديمقراطيتها في استيعاب الانقسام الإثني داخلها، وتقديم نموذج للمواطنة التي تشمل جميع المواطنين بغض النظر عن لغتهم الروسية أو الأوكرانية. ما نحن بصدده هو إضافة حالة من «الطفولة الليبرالية» إلى الجدل الأميركي في التعامل مع أمور بالغة التعقيد نتيجة التبسيط والكسل في متابعة ما يجري في العالم بدقة، سواء أكان هذا العالم من الخصوم أم الأصدقاء. وآخر هذه التطبيقات في الجدل السياسي ما حدث من اشتباك بين صحيفتي «الواشنطن بوست» و«أتلانتيك» الأميركيتين حول «الشرعية الليبرالية» للحوار الغني الذي أجرته الأخيرة مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. لم يعنِ كثيراً بالنسبة لكلا المؤسستين - وكلاهما ركن من أركان المؤسسة السياسية والفكرية الأميركي - أن التطلع الفكري حول المملكة لا بد له أن يدور حول «الاختراق» الذي حققته خلال السنوات القليلة الماضية، والذي حقق ثورة إصلاحية كبرى، شملت الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والمجتمع السعودي في أبعاده المختلفة وصلت بشجاعة كبيرة إلى علاقة الدين بالدولة، والموضوعات والقضايا كافة التي كانت «حرجة» في الماضي.
ما قدّمته الصحيفتان في اشتباكهما هو حالة من التجاهل التام لعدد من الأمور الجوهرية؛ أولها «الصورة الذائعة» عن المملكة قبل سنوات قصيرة، عندما كانت الصيغة المرسومة هي المحافظة والتشدد والانغلاق عن العالم، والنساء غير مسموح لهن بقيادة السيارات. وثانيها كيف جرى التطور داخل المملكة في كامل المعمور السعودي ومده على كامل خطاه بين الخليج العربي والبحر الأحمر. وجرى ذلك من خلال عملية استحضار واستيعاب أعلى درجات التقدم التكنولوجي التي أتت إلى الدنيا من خلال ثورات صناعية متتابعة خلال القرنين الماضيين. وأكثر من ذلك، الإنضاج السريع للدولة الوطنية السعودية منذ تأسيسها الأول حتى تأسيسها الثالث، بكل ما يعنيه ذلك من إرساء لمبدأ «المواطنة» كأساس للدولة. وثالثها المقارنة بين المسار السعودي، والمسارات المتعددة التي جرت في الدول الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة نفسها، وفي الوقت الحالي الذي شهد تنازع المحافظين الجدد (جورج بوش الابن)، والليبراليين الجدد (باراك أوباما)، والقوميين المحافظين البيض (دونالد ترمب) حتى وصلنا إلى الليبراليين وكفى (جوزيف بايدن)، وترك للجمهور الأميركي تحديد ما تعنيه. ورابعها أن الاشتباك بين «أتلانتيك» و«الواشنطن بوست» هو في حقيقته محاولة لتقنين وتعريف ما هي الليبرالية وما تشكله «المعرفة» بالحقيقة من أهمية لها. وخامسها أن أياً من المشاركين في الاشتباك لم يحضر التجربة الأميركية، لا في التعامل مع نفسها، ولا في التعامل مع العالم الخارجي.
التجربة الأميركية في التطبيق هي في حقيقتها غنية، ولا يمكن الأخذ بنجاحها فقط الذي جرى في ألمانيا واليابان في أعقاب حرب عالمية، دُمر كلاهما فيها؛ ورغم ذلك، فإن الشقة بعيدة بين الليبرالية في البلدين، وتلك التي يتحدث عنها الأميركيون. ولكن المسألة لا تعنينا الآن، وإنما التجارب الأخرى التي قامت في أفغانستان والعراق، التي فشلت فيها عمليات الهندسة السياسية لإنتاج مجتمعات، وفقاً للمقاسات الليبرالية الأميركية، التي تتجاهل الواقع وما طرأ ويطرأ عليه من تطورات. المدهش هو أنه بعد «الخروج الأميركي» من أفغانستان وإهدائها في أطباق من فضة إلى «طالبان» مرة أخرى، لم يتساءل أحد عما إذا كان يعبر عن فشل فكري لهندسة دولة، وبالطبع لم تكن هناك إجابة، ولم يجد الرئيس بايدن معضلة في عقد مؤتمر عالمي للدول الديمقراطية، يقسم العالم أكثر مما هو مقسم، في وقت لا تزال «الجائحة» فيه قائمة. وبنفس الطريقة، فإن المراجعة الأميركية لما جرى في العراق من دستور لا يحل معضلة، ومحاصصة لا تشكل وزارة ولا تأتي برئيس، وفي العموم نظام سياسي لا يتمتع بالكفاءة والقدرة في إدارة الدولة؛ كلها لا تفضح القيادة الحالية في العراق، بقدر ما تفضح التناول الأميركي لقضية الحكم في بلدان مختلفة. غياب الواقع عن التفكير الأميركي، في الماضي والحاضر، ممثلاً في الجدل السياسي لصحيفتين ومؤسستين في واشنطن، معبرتين عن كثيرين في الساحل الشرقي للولايات المتحدة، يعطي كثيراً من اليقين المصطنع عن حالة العالم، ويجعل العالم الأميركي ينفصل عن العالم كله. المشكلة، وربما الأزمة في ذلك، أنها لا تخص أميركا وحدها بانقسامها ووحدتها، وإنما هي تأتي إلى العالم بقدر غير قليل من الفوضى داخل الدول، وما يكفي من التنازع والصراع داخل النظام الدولي كله.