بقلم: عبد المنعم سعيد
يبدو أن الوقت كان قد حان للحصول على نفحة روحانية؛ فوسط الكثير من الأحداث الخطيرة في حرب أوكرانيا وما استدام من الجائحة وما تفجر من عنف في أرض فلسطين وما صاحب كل ذلك من غلاء، فإن شهر رمضان أعطى تلك الحالة من السكينة التي دامت مع سنوات العمر. وعندما جاءت الدعوة الكريمة لحضور افتتاح «معرض النسيج» الفرعونى بمتحف الحضارات لم يكن هناك بد نفسيًّا على الأقل من استعادة تلك الذكرى العطرة لافتتاح المتحف ذاته قبل عام، والذى جاء بعد العرض المبهر لموكب المومياوات المثير. ولأسباب عديدة كان هناك ارتباط دائم بالعصر الفرعونى لمصر، كان واحدًا منها، وربما أكثرها تأثيرًا، ما حدث في الصغر عندما كنا نلتف حول الخال عبدالبديع عبدالرحمن لكى يعرض علينا عبر الفانوس السحرى صورًا من ذلك العصر التليد. كان الخال من هؤلاء المبدعين الذين شاركوا في إنقاذ آثار النوبة من الغرق، ودوره فيها كان تصوير كل ملليمتر منها كى تسهم في التجميع والتركيب الصحيح بعد تقطيعها وإعادة تركيبها في موقعها الجديد أعلى النهر. كانت لديه ثروة كبيرة من الصور ظلت عَالَمَه حتى يومنا هذا، أعطاه الله الصحة والعافية. وسواء كان في مصر أو في الولايات المتحدة الأمريكية فإنها تعطيه دائمًا قدرًا هائلًا من الحكمة. ذكريات الشهر الكريم والرابطة مع العصر القديم دائمًا ما تحضر ذلك العمود الأصلى للهوية والحضارة والشخصية المصرية، التي أضاف إليها أستاذنا «د. ميلاد حنا» ستة أخرى يقوم عليها الفسطاط المصرى بما فيه من خلود وتحدٍّ للزمن ومواجهة مع حاضر عنيد.
زيارة المتحف، أو أي من مخلدات التاريخ المصرى القديم، تحضر فورًا جوهر الحضارة المصرية، التي من عجب أنها قامت على تلك الأنشودة الأخلاقية لكتاب الموتى، الذي يُدْهِش عندما يتحدث في الحقيقة عن الحياة: «السلام عليك أيها الإله الأعظم إله الحق. لقد جئتك يا إلهى خاضعًا لأشهد جلالك، جئتك يا إلهى متحليًا بالحق، متخليًا عن الباطل، فلم أظلم أحدًا ولم أسلك سبيل الضالّين. لم أحنث في يمين، ولم تضلنى الشهوة فتمتد عينى لزوجة أحد من رحمى، ولم تمتد يدى لمال غيرى. لم أكن كاذبًا ولم أكن لك عصِيًّا، ولم أسْعَ في الإيقاع بعبدعند سيده. إنى (يا إلهى) لم أُجِعْ ولم أُبْكِ أحدًا، وما قتلت وما غدرت، بل ما كنت مُحرِّضًا على قتل. إنى لم أسرق من المعابد خبزها، ولم أرتكب الفحشاء، ولم أدنس شيئًا مقدسًا، ولم أغتصب مالًا حرامًا، ولم أنتهك حرمة الأموات. إنى لم أبِعْ قمحًا بثمن فاحش ولم أغش الكيل. أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر. وما دمت بريئًا من الإثم، فاجعلنى يا إلهى من الفائزين». هذا المصرى استمر في دعائه دومًا مؤكدًا أنه «لم يقطف زهرة»
و«لم يقطع شجرة» و«لم يقطع طريقًا» و«لم يتسبب في أذية أنسان، ولم يرغم أحدًا من أقاربه على فعل السيئ، ولم يناصر العمل السيئ على العمل الطيب، ولم يمشِ مع المعتدى». «كتاب الحياة» الذي خرج به المصريون أخذ ذات القيم التي توطدت واستقرت وأصبحت جزءًا من الوجدان العام بفعل الديانتين المسيحية والإسلام حتى استقرت ليس بفعل أو قول المرشد العام، أو كبار السلفيين أو الحاملين لرايات القاعدة السوداء، وإنما بفعل الضمير المصرى، الذي عرف الدين بقدر ما عرف شؤون دنياه بلا وصاية ولا سيطرة ولا أخونة. ويوم تتم كتابة الكتاب فربما يُضاف إلى الأدعية والصلوات التي يقولها المصرى يوم الحساب أنه لم يكن مسؤولًا عن وجود الإخوان المسلمين في الحكم، وبعضهم يستطيعون القطع أنهم لم يكونوا مسؤولين عن مجيئهم من الأصل!.
أجواء الاستضافة الكريمة للوزير خالد العنانى، راعى الآثار والسياحة، بحيويته ورشاقته وسلاسة كلامه، وصفيّه، مصطفى الوزيرى، أمين المجلس الأعلى للآثار، بصوته الصافى المعبر، جعلت متحف النسيج يقيم ذلك الجسر السحرى بين الحياة والموت. وبقدر ما كان النسيج يصنع الملابس للحياة اليومية للمصرى فإن زاهيها وأرَقّها كان لباسًا وكفنًا للفراعنة العظام. نقل متحف «معرض النسيج» من شارع المعز إلى متحف الحضارة هو شهادة لعصرنا الحالى، الذي لم يبعث فقط الكثير من الثروة المصرية المادية في ربوع مصر، وإنما أضاف إليها بعثًا حضاريًّا وروحيًّا كبيرًا في أيام مباركة تنتشر فيها نسائم الصيام والصلوات والدعاء. هي أيام صعبة حقًّا، ولكن ما فيها من تجليات- تؤذن بها جوامع وترتل فيها كنائس- يزرع آمالًا كبيرة. وكل عام وأنتم بخير.