بقلم - عبد المنعم سعيد
كان من الأمور التى لفتت نظرى فى إعلان الاستقلال الأمريكى فى ٤ يوليو ١٧٧٦ أن حقوق الإنسان التى لا يمكن تجاوزها هى الحياة والحرية و«السعى» نحو السعادة. كان إدراج «السعادة» ضمن الحقوق الأساسية جديدًا على الفكر السياسى، وكان إيراده من قِبَل «توماس جيفرسون»، الذى كتب الإعلان من منطلقات ليبرالية فى زمن كان فيه كافة قادة الثورة الأمريكية من ملاك العبيد، فضلًا عن تمثيلهم لثلاث عشرة ولاية اختلفت مواقفها فى قضايا كثيرة. ولكن هذا الجانب لا يهمنا كثيرًا الآن، بعد أن بات شائعًا بأكثر مما كان قائمًا قبل أكثر من قرنين، فقد بات من الأمور التى تهتم بها الأمم المتحدة، التى كما هى العادة لا تكتفى بتحويل كل أمر فى العالم إلى تقرير سنوى،
وإنما تخصص يومًا فى العام للاحتفاء بهذا الأمر، وفى حالة السعادة فإن يومها هو العشرون من مارس كل سنة. القواميس تجعل السعادة حالة من الفرح والمرح والشعور بالامتنان لدى الإنسان، الذى ينطبق عليه ذلك وكذلك على الأسرة، ولكن انتقال ذلك إلى الدولة فهو جديد جدة القرن الحالى. مدينة القسطنطينية كان الاسم القديم لها يعنى «السعادة» أيضًا؛ ومن المفهوم صار هناك مَن يطلق عليهم «صاحب السعادة» من المسؤولين، ولكن الصفة أكثر شيوعًا بين السفراء، فيُقال «سعادة السفير». وقبل عشرين عامًا، جاء حظى فى المشاركة عضوًا فى ورشة عمل انعقدت من قِبَل المنتدى الاقتصادى العالمى، الشهير بمنتدى دافوس، ضمن ورشات عمل أخرى انعقدت فى مدينة دبى، تخص الكيفية التى نقرر بها المقارنة بين دول العالم؛ وكانت هناك ثورة عارمة بين الخبراء الدوليين على اعتبار «الناتج المحلى الإجمالى» أساسًا للمقارنة لأسباب ذُكرت فى ذلك الوقت، وجعلت المقياس مضللًا..
.. كان أهمها أنه لا يأخذ توزيع الدخل بين الشرائح الاجتماعية والأقاليم فى الاعتبار. ورغم تسليمى الشخصى ببعض جوانب القصور هذه؛ فقد وجدت أن التقارير المقترحة، ومن بينها مقياس الفاعلية والآخر السعادة، فيها أيضًا الكثير من العوار الذى ذكرته فى حينه، ولكنه لم يستحوذ على مساندة الأغلبية المتحمسة.
ولكن حركة «العولمة» وقتها كانت تبحث عما يرشدها من مفاهيم تخص جميع دول العالم، ومن الغريب أن مقياس الفاعلية أو Opacity قد ذوى، بينما ازدهر مقياس السعادة، الذى حمل فى طياته نوعًا من التفاؤل، ولذا بات له تقرير سنوى يلقى الاهتمام الدولى، وفوق ذلك يوم يحتفى فيه العالم بالمفهوم، كما أسلفنا جرى الاحتفاء به خلال السنوات العشر الماضية. التقرير يعتمد على ستة معايير، هى: الدخل، والعمر المتوقع عند الميلاد بينما الشخص فى حالة صحية جيدة، التضامن الاجتماعى، الحرية، الثقة، والكرم. الدولة الأولى فى العالم فى هذا الشأن هى فنلندا، التى حصلت على هذه المكانة لست سنوات متتالية؛ أما الدول الاسكندنافية المجاورة مثل الدنمارك والنرويج والسويد وأيسلندا، فهى دائمًا فى الدول العشر الأولى فى التقرير. وضمن هذه الزمرة المتقدمة، توجد سويسرا وهولندا ولوكسمبرج ونيوزيلندا. وباختصار، فإن القائمة تشهد فى أولها ذات الدول المتقدمة فى كل التقارير الدولية الأخرى، حيث تبدو «السعادة» ليست بعيدة عن الدخل المحلى الإجمالى الذى جاء المقياس لتجاوزه.
فى هذا العام هناك مفاجأة أن إسرائيل، التى لديها انقسام داخلى حاد قاد إلى ثورة ضد الحكومة المنتخبة، وحالة حرب دائمة مع الفلسطينيين، واشتباكات مستمرة مع إيران فى سوريا ومناطق أخرى، قفزت من المكانة التاسعة إلى المكانة الرابعة، رغم أنها دولة شرق أوسطية متوسطية المناخ لا تتمتع بهذا الكم الهائل من الثلج الذى تعيش فيه فنلندا، والذى يجعل سكانها أكثر تضامنًا وكرمًا وتمتعًا بالعمر المديد والدخل الكبير. مصر حدث لديها نوع آخر من الارتقاء، حيث أصبحت فى المكانة ١٢١ فى العام الحالى ٢٠٢٣، وهو تحسن ملموس مما كانت عليه فى العام الماضى ٢٠٢٢ وهو ١٢٩. ولكن ما يجعل المقياس مهتزًّا هو أن الأراضى الفلسطينية، (أى الضفة الغربية وغزة)، جاءت فى الترتيب ٩٩ رغم الاحتلال والحاجة المستمرة إلى التعمير لما يجرى تدميره بين عام وآخر. بين الدول العربية، فإن المقياس ينحو إلى الارتباط بالثروة النفطية، حيث تتبادل المكانة الأولى بين الدول العربية السعودية ودولة الإمارات، والأولى فى هذا العام فى الترتيب ٣٠ بينما الثانية ٢٣ على مستوى العالم.
هذه المعلومات كلها تدفع إلى مراجعة تقرير السعادة والأسس التى يستند إليها فى الحساب والترتيب، فرغم أننى أقع بين أوائل المتحمسين للاحتكام إلى التقارير الدولية فى الحكم على الأحوال فى مصر، خاصة تلك المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعى، مثل تقرير التنمية البشرية والتنافسية الدولية، فإننى أنظر بدرجات من الشك فى الأصول العلمية التى يعتمد عليها تقرير «السعادة» العالمى، الذى يجرى على ١٥٦ دولة. وفى مقال سابق، أشرت إلى أن السعادة فى جوهرها «حالة» نفسية تأخذ المعطيات وتحولها إلى مخرجات من السلوك والمشاعر تجاه النفس والآخرين. مثل هذه الحالة تدخل فيها حالة الطبيعة، ومن الشائع فى البلاد بالغة البرودة مثل الدول التى تتصدر مقياس السعادة أن يكون غياب الشمس، والاحتباس داخل صوامع زجاجية فى المنازل والمكاتب والمعامل والمصانع، ولفترة طويلة تقرب من تسعة شهور فى العام أحيانًا مدعاة للاكتئاب ومظاهر نفسية سلبية عديدة قد تؤدى إلى ارتفاع حالات الانتحار بتوابعها الاجتماعية. يُضاف إلى ذلك أن هذه الدول المتقدمة للغاية لم ينعكس تقدمها وسعادتها المتوقعة على التكاثر، فباتت شاهدة على انقلاب هرم العمر فيها رأسًا على عقب، حيث بات كبار السن الأكثر عددًا، والشباب الأقل عددًا، وهى الظاهرة المؤثرة على الحيوية العامة فى المجتمع. تقرير السعادة العالمى لا يأخذ بمثل هذه المخرجات، ورغم اهتمامه بالتضامن الاجتماعى، فإنه لا يعطى بالًا كثيرًا للتماسك الأسرى، وذيوع حالات الطلاق وتأثيراتها على الحالة النفسية للأطفال.
القائمون على التقرير لا يستبعدون كل ما سبق من حساباتهم، ولكنهم فى هذه الحالة يقسمون «السعادة» إلى نوعين: الأولى التى تدور حول حالة «الرضا» بين الأفراد والمجتمع ككل، وهى التى تنبع من السلوكيات المشار إليها سابقًا، حيث يكون الكرم والتضامن الاجتماعى مع كبار السن داعيًا إلى هذا الشعور بالقبول بالأحوال وليس التحول إلى «التعاسة»، التى هى الجانب المضاد للسعادة، وفيها يوجد القلق والحزن والغضب. والثانية هى التى تعبر عن الحالة العاطفية للإنسان، وهذه تحتاج مؤشرات أخرى تعكس الضحك والمتعة أو الاسترخاء والاقتراب من الآخرين عاطفيًّا بالعطاء والحب، وهى حالة مختلفة صعبة القياس لا تدخل فى التقارير الدولية، ولا يُخصص لها يوم فى العام للاحتفال. وضع تقرير السعادة الدولى فى هذا الإطار، ربما يكون مُحمَّلًا بأثقال التعبيرات النفسية فى الدول المتقدمة الصناعية فى شمال العالم ووضعها فى نطاق «نسبي» أكثر استسلامًا لمناخ تاريخى من البناء الرأسمالى القائم على الفردية، وحتى حالات الطقس بالغة البرودة.