بقلم :عبد المنعم سعيد
يبدو أن العالم لن يأخذ كفايته من المفاجآت الأميركية التي بلغت آفاقاً عالية خلال الأسابيع الأخيرة. ولا توجد نية هنا لإعادة التناول حول أفغانستان أو العراق أو ذكرى الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 أو ماذا كانت الولايات المتحدة تحاول فعله خلال فترة الرئيس ترمب، أو ما تفعله حالياً مع قيادة الرئيس بايدن.
ما يهمنا هو ما تفعله الدولة الرئيسية الأولى في العالم تجاه دول المنطقة العربية على ضوء كل ما قيل خلال الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي والذي يقوم على أن الولايات المتحدة عليها أن تسعى لقيادة العالم، وأن تفعل ذلك بينما تنسحب من مواقعها في الشرق الأوسط، وتعيد التموضع وسط حلفائها في أوروبا والباسفيك، وبينما تعيد ترتيب البيت من الداخل فإنها سوف تعزز التحالف الأطلنطي، وتدعم التحالف في المحيطين الهندي والباسفيكي مع الهند وأستراليا ونيوزلندا واليابان وكوريا الجنوبية. كل ذلك مفهوم، وإذا كان الفهم خاطئاً أو غير صحيح، فإن الولايات المتحدة لديها من المؤسسات الكافية لكي تصحح مسار الدولة، أو تغيّره أكثر من مرة في جولات انتخابية كما حدث خلال العقدين الماضيين. وعلى أي الأحوال فقد باتت واضحة الدروس المستخلصة من التجربة المعاصرة وعلى رأسها أن أميركا لم تتصرف بالقدر الكافي من صفاء العقل وغلبة الحكمة في أعقاب ما جرى قبل عشرين عاماً، وأن غزوها لكل من العراق وأفغانستان كان خطأ بالغاً. ولا يقل أهمية عن ذلك كان زيف فكرة بناء الدول القومية بالأدوات والتصورات الأميركية، وأن «الديمقراطية» فكرياً ومؤسسياً ليست النظام المناسب لدول أخرى، بل إنه في الإطار الأميركي ذاته يعاني من أوجاع كبيرة.
فلماذا وسط ذلك كله تقوم واشنطن بأمرين تتجاوزهما الحكمة بكثير: أولهما سحب صواريخ باتريوت من المنطقة، وهي سلاح دفاعي يسهم في حماية مواقع مدنية من هجمات صاروخية إيرانية. وثانيهما قيام الولايات المتحدة بتجميد 130 مليون دولار من معونتها العسكرية لمصر لخدمة أغراض غير معروفة لحقوق الإنسان، وذلك بينما تُجري مناورات «النجم الساطع» على الأرض المصرية لخدمة مصالح مشتركة أميركية وعربية. والإجراء الثاني تم مع دولة لها علاقات وثيقة أيضاً مع أميركا خلال العقود الخمسة الماضية، وارتبطت بكثير من المصالح المشتركة للسلام وتحقيق الاستقرار في المنطقة. الخطوتان على أهميتهما، فإنهما لا تحققان لواشنطن أي مصلحة وطنية، وإنما هما في الأغلب جرياً لإرضاء نزعات في الحزب الديمقراطي لا تزال تسعى إلى طغيان الآيديولوجية على السياسة الخارجية الأميركية، رغم كل الدروس التي جرى ذكرها أعلاه.
ومع الحساب فإن كلتاهما لا تؤثر سلباً لا على أية قدرات دفاعية، ولا في القدرات الاقتصادية المصرية، وكلتاهما تطورت كثيراً أمنياً واقتصادياً خلال السنوات الأخيرة بفعل عمليات الإصلاح العميقة في البلدين.
الأرجح أن كلا الإجراءين يعبّر عن استمرار حالة التهافت في الطاقة الأميركية نتيجة الانقسامات الكبيرة في الدولة، وعدم القدرة على فهم الطاقات والقدرات الموجودة في الدول العربية.
الأخطر من ذلك على التقديرات الأميركية هو توصيفها للنظام الدولي على أنه حالة من المنافسة بين واشنطن وبكين؛ وأنها في هذا السباق لديها قدرة غير مسبوقة على الكسب بسبب الألوان اللامعة للنموذج الأميركي، وذلك فيه قدر كبير من المبالغة وتجاوز الحقيقة. فالثابت أن النزيف الضخم الذي نزفته الدولة الأميركية خلال العقدين الماضيين كان من الحجم الذي يستمر تأثيره السلبي لعقود قادمة. تقديرات النزيف تتراوح ما بين 4 و9 تريليونات دولار إذا ما حسبت الفرص البديلة؛ ولكن تلك باتت في حسابات التكلفة الاقتصادية دون حساب للآثار السلبية على قدرات أميركا على صنع القرار. لقد كان «السوفتوير» الأميركي، وقدرات أميركا الناعمة على وجه العموم شكلاً من أشكال الجاذبية الأميركية. ولكن ذلك مع ما سببه من قصور في التعامل مع القضايا الأميركية بما فيها السياسة والانتخابات وتعاون المؤسسات، وما ظهر في أشكال عنصرية وفاشية... تسبب في خفوت كبير في هذه الجاذبية. وعلى العكس من ذلك فإن الصين الموصّفة بالمنافس الرئيسي للولايات المتحدة، تبدأ في علاقاتها الخارجية بقدر كبير من التحفظ والاعتراف بتقاليد دول العالم المختلفة، ولا هي تستخدم الحزب الشيوعي في نشر المركزية السياسية والاقتصادية، ولا هي تعطي دروساً في إدارة الاقتصاد والسياسة. وفوق ذلك فإن لديها ما يقابل 3.2 تريليون دولار من الاحتياطيات المالية، منها 1.4 تريليون دولار أميركي نقداً وعدّاً. النموذج التنموي الصيني فيه الكثير الذي يفيد الاقتصادات النامية؛ وفي المقابل فإن الحالة الأميركية عليها مديونية مقابل الدولار المستخدم كعملة دولية قدرها 28 تريليوناً، وكل ذلك بينما تزمع الولايات المتحدة إعادة بناء بنيتها الأساسية مضافاً لها إنفاقها الفيدرالي بما مقداره 3.5 تريليون دولار.
في إطار نفس المنافسة فإن سيث جي جونز، وهو أحد الخبراء الأميركيين في الشؤون الاستراتيجية العالمية أصدر كتاباً مهماً مؤخراً بعنوان «ثلاثة رجال خطرين»، حيث يمثل هؤلاء ثلاث قوى مناوئة ومنافسة للولايات المتحدة هي الصين وروسيا وإيران. وبينما ركزت الولايات المتحدة على بناء الطائرات النفاثة، والصواريخ، والقدرات القتالية التقليدية، فإن هؤلاء الثلاثة اتّبعوا سياسات غير تقليدية للحرب السيبرانية، والقوى التي تعمل بالوكالة، والدعاية، والتجسس، والمعلومات الكاذبة لكي تقوّض القدرة الأميركية بما فيها التدخل في الانتخابات. باختصار كانت هذه القوى أكثر إخلاصاً لأدوات العالم الحديث في القرن الحادي والعشرين مما هو حال أميركا وهي موطن الثورتين الصناعيتين الثالثة والرابعة معاً. ومقابل ذلك فإن واشنطن ذهبت بعيداً في خلق حالة من الغربة لدى حلفائها الرئيسيين في الغرب زادت على ما كانت عليه في أثناء الإدارة السابقة للرئيس دونالد ترمب الذي كانت هناك شكوك قوية في مدى ولائه لما تسمى القيم الغربية وحتى حلف الأطلنطي. والآن وتحت إدارة الرئيس جوزيف بايدن فإن السلوكيات الأميركية خلال الأزمة الأفغانية عكست شيخوخة قيادية؛ لا يبدو أنها سوف تكون قادرة على تجاوز الانقسام الأميركي في الداخل، والبعد عن الحلفاء في الخارج.
إن تأكيد الآيديولوجية الليبرالية دونما موقف حقيقي من التنظيمات «الإسلاموية» الإرهابية مثل الإخوان المسلمين، يجعل مواقف واشنطن من شركائها في الشرق الأوسط فيها قدر كبير من التناقض غير الحميد الذي يعطي دفعات للقوى المعادية للعلاقات مع الولايات المتحدة لكي تقوّض أكثر من ذلك نفوذها في الشرق الأوسط والعالم أيضاً.