بقلم - عبد المنعم سعيد
فى بلادنا الآن مفهومان يعبران عن قلق ذائع أولهما أننا نعيش فى حالة عالمية من «عدم اليقين» أو Uncertainty، وهو منتشر فى الدوريات السياسية الدولية ساعة الإشارة إلى أزمة الحرب الروسية الأوكرانية، التى لا يعلم أحد لماذا بدأت ومتى سوف تنتهى. وثانيهما «فقه الأولويات»، وهو تعبير مستعار من كتاب الشيخ يوسف القرضاوى، قطب جماعة الإخوان المسلمين، وصدر فى الدوحة عام ١٩٩٤، وفيه قام الشيخ بهندسة أولوياته من خلال إسقاطه على كل ما تصور أنه سائد فى الحياة المدنية، وما وجب من إعداد الفرد للحياة الإخوانية. ارتبط العنوان بواقع يُراد استبداله بواقع آخر تسللت به الجماعة إلى الضمير المصرى لكى تحركه فى اتجاه ومقصد مضاد للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. المفهوم الأول سبقت معالجته فى مقال «المصرى اليوم»، الأحد ١١ يونيو الجارى، فى إطار أن ما يجرى اليوم فى العالم ليس جديدًا على مصر، وأنها تستطيع تجاوزه؛ أما المفهوم الثانى، فالمرجح أنه مستعار دون وعى بأصوله، ولاستخدامه لتوفير درجة من الغموض حول أهمية المشروعات المصرية التى أُقيمت خلال السنوات الماضية، ومدى مطابقتها لأولويات يتصور صاحبها أنها الأكثر جدارة. كثيرًا ما لا يكون الحديث كاشفًا عن تصور عميق لتطوير الدولة المصرية؛ وإنما عن مجموعة من الجمل التى تتحدث عن كيف تأثر المصريون بمعدلات التضخم، ويكون التعبير عنها بجمل من نوعيات أن المصريين قد وصلوا إلى آخرهم، أو أن طاقاتهم نفدت، فلم يعد فيها زيت ولا نفط. المسكوت عنه فى هذه الجمل أن القائل بها يريد لكل مشروعاتنا أن تتوقف، ونلغى ما لم يبدأ منها، وخاصة «القطار السريع» و«المونوريل»، ولا بأس بعد ذلك من إبداء الندم على بناء العاصمة الجديدة، فلا حاجة إلى عاصمة ولا لبناء أوبرا إضافية؛ وبناء مدن فاخرة مثل العلمين كان ممكنًا أن نجعلها مدنًا على قدر الحاجة، أعلى من العشوائيات وأشد نظافة. أما «الطرق والكبارى» فهى من أكثر المنطوقات على سلم الأولويات التى تكون بالنزول وليس الصعود.
الحديث فى «فقه الأولويات» طويل، ومن النادر أن نصل إلى نهايته، ولكن رفع الغطاء عنه يأخذنا فورًا إلى حاجة ماسّة للعودة إلى «إدارة الفقر» مرة أخرى بدلًا من إدارة «الثروة». هنا لا يكون هناك اكتفاء بتوسيع شبكة «الحماية الاجتماعية»، وإنما أن تكون هى الاستراتيجية القومية للشعب المصرى، فتصب فى معيشته ومدنه وحياته، ولا تعميق مشروع «حياة كريمة» بحيث يحول القرية المصرية لكى تليق بالمصريين وتجعلها أكثر قدرة على زيادة الإنتاجية، وإنما تجعلها تعود إلى سابق عهدها من سكون ودعة. الطموح هنا لا يزيد عن تيسير حالة المصريين فى فقرهم، وربما يكونون أكثر تعلمًا للأبجدية، ومبادئ الحساب. ورغم أن الأكثر حصافة فى «فقه الأولويات» يحرص دائمًا على ضرورة التأكيد على أن قمة الأولويات هى التعليم والصحة، وسوف يضرب أمثالًا ناقصة حول الدول التى وضعت كافة ناتجها المحلى الإجمالى فى التعليم، على أساس أن الإنسان المتعلم هو الذى سوف يأتى بالثروة. سوف يأتى الشاطر بمثل حكيم حول أن صحة البدن هى المقدمة الطبيعية لزيادة الإنتاج. السكوت سوف يظل مُدويًّا عن عدد المدارس التى بُنيت، والجامعات التى شُيدت، فيروس «سى» الذى انتهى، وما جرى فى أزمة الكورونا. الكريم سوف يقول ان هذه إنجازات لا ينكرها إلا جاحد، ومع ذلك فإنه يفترض فيها أنها لم تكن من الأولويات، أو أنها مكلفة، أو أنها لا تقبل إلا الأغنياء. الأولويات التى يأتى بها الفقه لن تُذكر، ولكنها سوف تكون كامنة فى إلغاء أو وقف ما جرى، والعودة إلى أيامنا السابقة التى استغرق فيها بناء جسر ثلاثين عامًا، وبناء مستشفيات لنصف طريقها الخرسانى وبعدها يبقى شاهدًا على صدق النية وصفاء السريرة.
ما جعل فقه الأولويات ذائعًا على هذه الصورة الممتدة ما بين الحوار الوطنى إلى قاعات المجالس النيابية ثلاثة أمور: أولها أن الحكمة مما جرى لم تكن أبدًا جزءًا من المشروع الوطنى المصرى. كان هناك حديث عن حكمة كل مشروع على حدة، ولكن الرابطة بينها مثل المشروع الوطنى للتنمية العمرانية الذى يعود إلى عامى ٢٠٠٨و ٢٠٠٩، لم يجْرِ ذكره وبقى مختفيًا حتى فترة قصيرة مضت. رؤية مصر ٢٠٣٠ كان الحديث عنها نادرًا، ومتناثرًا؛ ولم يحدث أبدًا تقييم مستمر لما تم إنجازه وما لم يتم. وثانيها أن كيفية الاقتراب من عدد من المشروعات المهمة لم تُشرح؛ وعلى سبيل المثال أن مشروعات القطارات السريعة والمونوريل جاءت من خلال فرص أُتيحت فى النظام الصناعى الدولى، حيث الدول المتقدمة صناعيًّا تريد دوام تشغيل مصانعها وشركاتها، ولذا فإنها على استعداد لإعطاء قروض ميسرة بفترات سماح معقولة لكى تتم هذه المشروعات. قروض هذه المشروعات لا تأتى لنا، ولا تدخل بنوكنا فى معظمها، وإنما هى مخصصة لمشروعات بعينها يكون الجزء الأعظم فى بلد المقر. وبالمناسبة، فإن مشروعات القطار السريع تمت بالفعل فى المغرب، وجارٍ تنفيذها فى السعودية والعراق وإيران. وثالثها أن القضية كلها، والفارق بين أولويات إدارة الثروة وأولويات إدارة الفقر هى الصورة التى لدى القائلين بهما لمصر؛ وهل هى بلد متقدم وغنى ويقع فى الصفوف الأولى من دول العالم، أم أنها من الدول التى تكتفى فى أقصى تمنياتها بالستر. الفارق يكمن أيضًا فى عما إذا كانت مصر تعد نفسها للسباق، فتكون صين الشرق الأوسط أو أنها سوف تكتفى بماضيها التليد. المسافة بين الفريقين تكمن فى المستقبل الذى يسعون له فتكون مصر مزدهرة، والمصريون أكثر قدرة وطاقة، بحيث إن ما يبنى الآن هو الذى سوف يشكل صورة المستقبل.
القصة المصرية التاريخية أنها منذ منتصف القرن العشرين، وهى تأتى متأخرة لكل التكنولوجيات التى عرفها العالم. كانت مصر فى القرن التاسع عشر من أوائل مَن عرفوا القطار، والتلغراف، والتليفون، والسيارات فى العالم وليس فى إفريقيا أو العالم العربى، فضلًا عن الصحافة والمسرح والسينما والصناعة والبنوك. السبق بتكنولوجيا «المونوريل» هو لحاق مستقبلى بوسائل جديدة للانتقال لم تكن هى وحدها الجديدة فى تاريخ المشروع المصرى الراهن. ومَن عاش المواصلات المصرية خلال عقود النصف الثانى من القرن العشرين وكيف تدهورت أحوالها، والمساكن خلال نفس الفترة سيدرك ذلك. الفنيون من أصحاب «فقه الأولويات» سوف يشيرون دومًا إلى العجز فى الموازنة العامة، والعجز الآخر فى ميزان المدفوعات، والثالث فى الميزان التجارى؛ ولكنهم لن يشيروا أبدًا إلى العجز الكبير فى التوازن ما بين الجغرافيا والديموغرافيا المصرية، وهو العجز الذى جرى سده أو معظمه خلال السنوات الماضية، ومنه سوف يكون سد أشكال العجز الأخرى. أشكال العجز الأخرى لن يتم سدها إلا عندما يتم تشغيل العجز الأكبر بالمزيد من الاستثمارات، التى تأتى دون اعتراض من قِبَل جهاز إدارى موسوس بأفكار إدارة الفقر.