بقلم - عبد المنعم سعيد
غدًا، سوف تبدأ، وفق ما هو معلوم، جلسات «الحوار الوطنى»، بعد أكثر من عام من الدعوة إليه في خطاب للرئيس عبدالفتاح السيسى في إفطار «الأسرة المصرية»، وشفع الدعوة بأربع عشرة نقطة تحدد المسار العام للتجربة الوطنية المصرية. ورغم الكثير من التعجب حول مرور هذه الفترة الزمنية منذ بدايتها حتى الآن فإن هناك الكثير الذي جرى خلالها ويجعل الحوار القادم أكثر خصوبة وغنى. من ناحية لم تكن الفترة خالية من الحوارات التي أظنها الآن مفيدة؛ وكان بعضها منطلقًا من الدولة مثل الحوار الاقتصادى الذي طرح الكثير من المعلومات، وما هو أكثر منه في وجهات النظر، وفى النهاية كان هناك قدر غير قليل من التوافق على الأهمية القصوى للاستثمار والدور واجب التميز للقطاع الخاص في رفعة الاقتصاد المصرى.
ومن ناحية أخرى فإن الدعوة إلى الحوار وضعت الأحزاب السياسية المصرية أمام مسؤوليات لها اعتقدت أنها غائبة عن الواجب، فبدأت في تجميع أفكارها وصياغتها مع اكتشافات كبيرة لوجود درجات كبيرة من التنوع حول أمور كثيرة.
ومن ناحية ثالثة، فإن إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسية نزعت الكثير من الشوك لكى يكون الحوار القادم جديًّا في مناقشة القضايا المصرية الكبرى بدلًا من وضعها وراء لغط التعامل مع القضايا الحقوقية سواء تلك الواقعة أمام المحاكم المصرية أو تلك التي تقع خلف جدار الحبس الاحتياطى. ومن ناحية رابعة فإن تعيين كل من السيدين المستشار محمود فوزى والأستاذ ضياء رشوان كمشرف ومنسق للحوار، ومن ورائهما أمانة عامة تشمل الكثير من التيارات السياسية المصرية ربما يعطى الحوار القادم قدرات أكبر للتعامل مع التحديات المختلفة التي تواجهها مصر سواء في محيطها الخارجى، وآخرها الكارثة السودانية الجارية؛ أو في داخلها خاصة ذات العلاقة بالأوضاع الاقتصادية.
.. التحدى الكبير الذي يلاقى المشاركين في الحوار هو جذب الاهتمام الوطنى العام مرة أخرى إلى القضايا الماثلة ووجهات النظر حولها، فليس غائبًا عن أحد أن مفهوم «الحوار الوطنى» من تلك المفاهيم التي تلقى احترامًا خاصًّا لدى الجمهور السياسى المصرى. وما إن تظهر قضية أو موضوع إلا وتنشب فورًا دعوة إلى الحوار الوطنى حولها؛ وإذا لم يحدث ذلك الحوار فإن نوعًا من رد الفعل السلبى يدور فورًا، خاصة أن فئات سياسية أعادت اختراع المفهوم، فصار «الحوار المجتمعى» الذي مازلت لا أعرف له فارقًا مع الحوار الوطنى. ولكن أيًّا كانت التسمية فإن الجمهور المصرى ينتظر من المشاركين تعاملًا مباشرًا مع القضايا المُلِحّة والمطروحة، وخاصة تلك المتعلقة بالتضخم وارتفاع الأسعار. ومع ذلك فإن هذه القضايا على أهميتها البالغة، فإنها لا ينبغى لها أن تغض الطرف عن حقيقة أننا نقيم الحوار ليس فقط من أجل حاضر مصر، وإنما من أجل مستقبلها.
مشكلتنا دائمًا مع الحوارات الوطنية المرغوبة دائمًا والمحبطة أحيانًا أنها تتأرجح حول الغرض من الحوار، ومن ثَمَّ قائمة الأعمال التي تنبثق منه؛ كما أنها لا تعلم أبدًا مَن هم المعنيون بهذا الحوار. وفى بلد توجد فيه أحزاب يُقال عنها «ورقية» وأخرى «كرتونية»؛ وثالثة تنتمى إلى العهد البائد والقديم؛ ورابعة لا تزال في دور التكوين وتريد وقتًا غير محدد يبقى الحال على ما هو عليه حتى تكبر وتزدهر وتصبح قادرة على كسب الانتخابات العامة أو على الأقل التأثير البالغ في الحوارات الوطنية؛ وخامسة تعبر عن كتلة هائمة من المستقلين لا تعرف إلى أين تذهب، ولكن لأنها كانت دومًا الأغلبية فلا بد لها من مكان في الحوار تحت اسم «الشخصيات العامة»؛ وسادسة تعبر عن كتلة واسعة أكبر تُعرف في الكتب السياسية باسم «الأغلبية الصامتة»- أو «حزب الكنبة» الذي يتفرج على المتحاورين- أو أن المسألة ببساطة أنها لا تهتم بما يجرى أو لديها الحماس الكافى للمشاركة معنويًّا أو ماديًّا فيه.
المسألة أمام إدارة الحوار أنها تحتاج نقطة بداية لها علاقة بالرؤية التي نريدها لمصر، ومع قدر من الاجتهاد، الرؤية التي تراها الطبقة الوسطى والنخبة السياسية المنوط بها إدارة البلاد أو التي تسعى إلى إدارتها من خلال توافق وطنى حول قواعد اللعبة. وهنا نجد حديثًا كثيرًا، وربما توافقًا وطنيًّا على أننا نريد دولة ديمقراطية مدنية، وهى خطوة كبيرة إلى الأمام لو أننا فهمنا هذا الهدف على أننا نريد دولة ديمقراطية مدنية مثل تلك التي يعرفها العالم والمتفق عليه بالنسبة لهذا الهدف. باختصار، فإن هذا الهدف يحتاج إلى «مرجعية» سبق لى أن طرحتها قبل عام في مطلع الحديث عن «الحوار الوطنى» في مقال بالمصرى اليوم بتاريخ ٢٩ مايو ٢٠٢٢ بدأ باستعراض المرجعيات «التاريخية» لمصر الحديثة منذ قيام مصر الحديثة في دولة محمد على عثمانية كانت أو ملكية أو جمهورية، وليبرالية كانت أو اشتراكية، أو إسلاموية.
التقدير هنا هو أن الحوار الوطنى لن يسلم من حضور هذه المرجعيات، ولكنه لن يَسْلَمَ الطريق ما لم يطّلع على المرجعية، التي قادت البلاد خلال السنوات العشر الماضية، وتحديدًا منذ ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، التي رغم شيوع بصمات المرجعيات السابقة، فإنها أخذت من عالمها تجارب الدول الصناعية الحديثة، التي عانت كثيرًا من الاستعمار والتخلف في عمومه ثم ظهرت إلى الدنيا خلال العقود الثلاثة الماضية كنمور وفهود اقتصادية، وقوى منافسة في النظام العالمى. أغلبية هذه الدول ظهرت في آسيا، وفى المقدمة منها الصين والهند وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وتايلاند والفلبين وسنغافورة وفيتنام؛ ولكن تجربتها تظهر متناثرة في أمريكا اللاتينية في المكسيك والبرازيل، وفى إفريقيا في رواندا وغانا. هذه الدول جميعها تجنبت التورط الخارجى في نزاعات وصراعات، وأخذت بنوع من الثبات أو الكمون أو حتى الصبر الاستراتيجى لكى توفر كل طاقاتها من أجل عمليات البناء الداخلية. استفادت هذه الدول كثيرًا من تجاربها الداخلية التاريخية، وفى العموم فإن الاستقرار والأمن الإقليمى وضع الأساس لإدارة الثروة الوطنية، وليس إدارة الفقر التي حكمت السياسات والحوارات المصرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
مرجعية السنوات العشر السابقة لابد أن تجد مجالها الفسيح في الحوار، وهى مرجعية تقوم على الاستقرار والثبات والصبر الاستراتيجى وبناء الدولة بمعدلات عالية وسريعة تكفل تراكم الثروة وتحقيق انطلاقات كبرى أثناء السنوات الثمانى المقبلة حتى عام ٢٠٣٠. ما نحتاجه أولًا مراجعة ما تحقق وهو كثير، وما لم يتحقق وأسبابه؛ وثانيًا أن تكون مصر أكثر قدرة على مقاومة الصدمات والاضطرابات الخارجية الإقليمية والدولية، التي يبدو أنها سوف تكون كثيفة في المرحلة المقبلة؛ وثالثًا أن تكون مصر أكثر استعدادًا لتحقيق معدلات أعلى للتنمية لا تقل عن ٨٪ تحتاج الفاعلية الكاملة لمشاركات القطاع الخاص والعام والقوات المسلحة بتخطيط من خلال تفعيل الدستور، خاصة ما يتعلق فيه بالمحليات وما يمكن أن يصل إليه مجلس الشيوخ بتفعيل المادة ٢٤٨ الخاصة بتوسيد دعائم الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.