بقلم - عبد المنعم سعيد
لا تزال جلسات «الحوار الوطنى» في أول الطريق، والجمهور في مصر ينتظر ما سوف يسفر عنه من نتائج؛ وربما أكثرها إلحاحا على العقل هو الكيفية التي سوف ينجح بها حكماء الأمة والسياسيون في عبور الأزمة الاقتصادية الراهنة، والتى ترجمتها الارتفاع الفاحش في الأسعار.. ولكن انتظار النتيجة لا ينفى حقيقة أن الحوار دائر، سواء كان ذلك في جلساته الرسمية، أو ما يجرى مشاهدته من خلال أجهزة الإعلام أو عبر وسائل التواصل الاجتماعى. وفى هذه الأخيرة، فإن الحوار يجرى دائما بين سائل ومسئول، حيث الأول يتهم ويغمز ويلمز؛ والثانى يبدو مرتبكا ما بين الإجابة التي يخشى أن تصيبه باتهام الموالاة، أو أن يُبقى الإجابة معلقة في وجه المستمع أو المشاهد فيبدو السؤال مفحما إلى الدرجة التي تستدعى الصمت لأن الإجابة بها حرج.
في حوار جرى بين الأستاذ إبراهيم عيسى، الكاتب الموهوب والمذيع المقدر، والأستاذ محمد ضياء الدين عضو مجلس النواب الموقر، تتجسد فيه هذه المسألة.
فعندما يعرض الأخير حقيقة أن تعويض الحكومة للعمالة غير المنتظمة هو ٤٥٠ جنيها فقط لا يكفى بالطبع أساسيات الحياة، فإن الأول لا يسأل ماذا تقدر أن يكون المبلغ في مشروعك الوطنى؟ فإذا كان ١٠٠٠ مثلا، فإن الكف سوف يضرب كفا آخر بأن ذلك لن يغير من الأمر شيئا على ضوء الارتفاع المعلوم في الأسعار، أما إذا وصلنا إلى رقم العشرة آلاف، فإن السؤال الواجب: ومن أي بند في الموازنة العامة التي قرأها النائب سوف يستعيرها؟.. وعندما يقرر الأخير أن هناك أمورا كثيرا واجبة الحذف حتى تسود الحكمة والرشد، فإن السائل لا يسأل إذًا ما الأمور واجبة الإضافة؟.
الحوار هكذا كما يقول عنه الإخوة السودانيون «ساكت» لا يكتمل ولا يفصح، وفيه رصد وترصد واستغلال لحظة قلق عالمية غير مواتية، مع اتباع منهج سائد في فقه أدوات التواصل الاجتماعى والفضائيات التركية، التي تجد الحكمة فجأة في «فقه الأولويات»، وترجمته العملية إزالة كل «المشروعات القومية» واستبدالها بتوزيع الثروة على «الفقراء» و«الغلابة» و«غير المنتظمين في العمل». أما الأكثر حصافة فإنه يعيد التأكيد على إنفاق الصحة والتعليم، مشيرا إلى ما فعلته دول أخرى كان ذلك وسيلتها إلى الكرامة، دون ذِكر كلمة واحدة عما فعلته هذه الدول بالنسبة للبنية الأساسية، وهل ما جرى لها جرى بينما لديها أزمات إسكان عشوائيات، وخبز لا يتوفر، ومواصلات غير آدمية، واتصالات لا تتوقف عن الانقطاع؟!. الغريب أنه في وسط ذلك كله، لا نجد كلمة واحدة عما جرى إنفاقه بالفعل لبناء المدارس والجامعات الجديدة خلال الفترة الراهنة مقارنة بفترات سابقة.
نقطة البداية الحقيقية في الحوار هي أنه أيا كانت الأيديولوجيات والنوايا، فإن نقطة البداية للساسة هي أولًا الحالة الراهنة لمصر، بواقعها وشمولها وحقيقتها، وليست الاجتزاء من أرقام يتم اختطافها من هنا وهناك ودون نسبتها إلى أصول وثروة. هي بداية لا تتجاوز الزيادة السكانية وتعبرها بخفة اليد وغفلة العقل، لأن هذه الزيادة هي التي على الوطنيين المصريين التعامل معها، أيًّا مَن كان الحكم الموجود في مصر. وثانيًا المرجعية التي نعود إليها في التعامل مع هذا الواقع بحُلوه فيما أنجز، ومُرّه فيما أخفق.
وفى العالم مرجعيتان: الأولى المرجعية الغربية في شمال أمريكا وأوروبا وتوابعها في اليابان وأستراليا؛ والثانية في آسيا حيث الصين وشرق وجنوب شرق آسيا من نمور وفهود. وفى مصر يوجد حتى الآن مشروعان: الأول الذي يعبر عنه رؤية مصر ٢٠٣٠، والثانى ما طرحه الإخوان عن مشروع للنهضة قائم على طفرة كبيرة في بناء الأسواق طالما أن الرزق يأتى من التجارة. اليسار لديه رؤية غائمة تقوم على توزيع الثروة على المحتاجين، فتزداد السوق والطلب، فتخلق العرض والتصنيع والسوق المباركة.
تجارب ذلك السابقة بما فيها مصر كانت حكما دائما بالفقر والضعف وسوء الموئل وبئس المصير. لا يوجد في كل ما سبق ادعاء بأن الأحوال المصرية طيبة، أو أنها على ما يرام.. ولكن البناء الجديد سواء كان بديلا أو تطويرا لا مفر فيه من البداية عند النقطة الحالية في مصر وليس بالقفز فوقها إلى أنواع مختلفة من المجهول.
«الحوار» هنا سوف يكون له معنى، وفيه جسور مثمرة، ومصيره بنّاء عندما ينحو نحو «التشغيل» الأفضل للتغيير الكبير الذي جرى في مصر خلال السنوات الثمانى الماضية وأخذها من النهر إلى البحر، ومن الفقر إلى الستر، ومن العشوائيات إلى الأسمرات، ومن الإرهاب والخوار إلى الإسهاب والحوار.