فيما يتجاهل المجتمع الفلسطيني نتائج الحوار في تركيا بين حركتي «فتح» و»حماس»، فإن النخب السياسية وممثلي منظمات المجتمع المدني منقسمون، بين متفائل، ومتشائم، بحذر ومن دون حذر.
الأسباب معروفة، بطبيعة الحال ومفهومة فتاريخ الحوارات، والاتفاقيات والاحتفالات، لا يزال ماثلا في الأذهان. وماثل في الأذهان، أيضاً، كم تركت من خيبات أمل، وأطاحت بالكثير من التحليلات والمواقف المتفائلة.
لست ممن يتوقفون عند مآلات التحليلات والمواقف السلبية أو الإيجابية التي رافقت رحلات البحث عن حلول للانقسام الفلسطيني.
إذا كانت مواقف وسياسات القيادات الفلسطينية عموماً، ضبابية وتفتقد للشفافية، وتميل أكثر إلى المراوغة والتردد وتغليب الحسابات الشخصية والفئوية، وهي التي تتحمل المسؤولية إزاء ما يصيب الشعب والقضية، فإن مسؤولية المحللين والكتّاب تبدو بسيطة وتكاد لا تذكر إن كانت صائبة أو خائبة.
وعدا التحليلات والمواقف التي تصدر عن كتّاب ومحللين منتمين لهذا الفصيل أو ذاك، فإن ما شهدته الساحة الفلسطينية عموماً خلال الأعوام السابقة يفتقد إلى المنطق، ويضرب كل قواعد التحليل والتنبؤ السليم.
من غير الضروري التوقف طويلاً أمام سؤال: لماذا الحوار في تركيا، وليس في فلسطين، أو مصر أو الأردن، رغم أهمية وأولوية ذلك، فلعل الأهم التوقف أمام مخرجات الحوار، ذلك لأن الأطراف في البداية وفي النهاية لا تجرؤ على مخالفة سطوة الجغرافيا، وتأثيرها.
اختيار تركيا في هذه الفترة، قد يثير بعض الأسئلة انطلاقاً من واقع السياسات والمواقف التي اتخذتها بعد انهيارات التطبيع العربي. لكن من يقرأ جيداً تاريخ حركة «فتح»، عليه أن يصدق بأن هذا الاختيار للمكان لا ينطوي على رغبة سياسية في الانخراط بمنظومة المحاور الإقليمية أو العربية.
في الواقع ثمة بضع ملاحظات يمكن تسجيلها على ما جرى في تركيا، وما جرى برأيي يتجاوز ما ورد في البيان المشترك الذي تحدث فقط عن اتفاق بشأن إجراء انتخابات متتابعة للمجلس التشريعي ثم الرئاسة فالمجلس الوطني.
قبل أن أبدأ بتقديم الملاحظات، ثمة ما يلفت النظر سياسياً في البيان المقتضب، ولا بد أنه يستوقف من يدقق في المفردات. يتعلق الأمر بما ورد في البيان بشأن «دولة مستقلة وعاصمتها القدس».
هذه الصيغة تتجاوز المألوف، وتشير إلى توافقات سياسية، أو تفاهمات بشأن مستقبل الصراع. تعوّدنا أن نقرأ ونسمع صيغة تتحدث عن الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران، وعاصمتها القدس الشرقية وهي بالأساس مضمون خطاب حركة «فتح» والسلطة وقوى أخرى.
تعكس الصيغة الواردة في البيان إشارة إلى اليأس من إمكانية تحقيق الأهداف الفلسطينية استناداً للشرعية الدولية وقراراتها، وتعديلاً جوهرياً، وربما انقلاباً على ما يُعرف بالمشروع الوطني القائم على القرارات الدولية.
الدولة الفلسطينية المستقلة، حين يتم تجاهل حدودها تعني أرض فلسطين التاريخية، وحين تكون القدس وليس الشرقية منها فإنها تدل على أن القدس كلها شرقيها وغربيها هي عاصمة الدولة المستقلة.
أتمنى أن لا أدخل في سجال مع أحد بشأن هذا التفسير، إن كان مخطئاً أم مصيباً فأنا لا أقرأ الغيب، ولا أقرأ في الفنجان، وإنما أدرس مصطلحات سياسية على نحوٍ مجرّد.
بصدد الملاحظات، فإن أولاها، تتصل بطبيعة الحوار الثنائي، الذي يجعل الفصائل الأخرى ودورها أقرب إلى شهود الزور والمطبّلين أو المعترضين، الذين يدفعهم الأمر إلى اتخاذ مواقف حدية إما مع الاتفاق أو ضده.
وقد لاحظنا البداية من موقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لكن غياب أو تأخر مواقف فصائل أخرى لا يعني بالضرورة قبولها، بصيغة الحوار والاتفاق الثنائي.
ثاني هذه الملاحظات، يتصل بطبيعة المؤسسة التشريعية التي سيتم انتخابها فهل بقيت صلاحية لمجلس تشريعي هو من المكوّنات الأساسية لـ «أوسلو»، أم أن الأمر يستدعي شيئاً آخر له علاقة بالدولة وليس بالسلطة.
ثالث هذه الملاحظات، لماذا تجرى الانتخابات التشريعية والرئاسية، بشكل متتالٍ وليس متزامناً، أو خلال فترة قصيرة بينهما؟ أم أن الأمر يتصل بسلسلة معارك سياسية وشعبية ضد الاحتلال، ذلك أن قضية الانتخابات واستعادة الوحدة، ومشاركة المقدسيين، ستكون محل صراع مع الاحتلال.
إن كان الأمر كذلك، فإن المرسوم الرئاسي، ينبغي أن يكون واضحاً، وأن يجري تفسير لهذا الفصل بين محطتين انتخابيتين الأصل التزامن بينهما.
رابع هذه الملاحظات، أن الفترة التي جرى الاتفاق على أن تكون ستة أشهر، تبدو طويلة، ما يثير شكوكاً تتصل بإمكانية المراهنة على نتائج الانتخابات الأميركية، وإمكانية الانقلاب على ما تم الاتفاق عليه.
خامس هذه الملاحظات، وهي تتجاوز محطة تركيا، تتعلق بالتغييب الكامل لأحد مكونات المجتمع الفلسطيني حتى عن حوار الأمناء العامين.
ثمة تجاهل كامل للمجتمع المدني بكل عناوينه، وللنخب السياسية والأكاديمية والمجتمعية الفاعلة، ذلك أن تركيب الفعالية في المجتمع لا يقتصر فقط على السلطة أو السلطات والفصائل، فالمجتمع المدني ركن أساسي وفاعل في الحياة العامة.
في الواقع ليس لدي اعتراض على صيغة التوافق والمحاصصة بين الحركتين سواء من خلال الاتفاق على قائمة مشتركة أم تحديد عدد مقاعد المرشحين من كلا الحركتين.
الحسابات السياسية على الأرجح تتطلب ذلك حتى لا يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام توسيع دائرة الأعداء، ومواجهة حصار شامل على الكل الفلسطيني كما هو الحال في قطاع غزة.
وفي كل الأحوال ستكون هناك محاصصة إن لم تكن في «التشريعي» فعلى صعيد المجلس الوطني حيث لا يمكن، إجراء الانتخابات في بعض المواقع.
الاعتراض محصور في إطار هذا التوافق وهذه المحاصصة، فلماذا لا يكون ذلك عبر الحوار الوطني الجامع، وبما يترك مساحة معقولة سواء للفصائل، أو للمجتمع المدني، أو لـ «المستقلين» والحراكات الشبابية.
وبالرغم من كل ذلك فإن الاتفاق بالحدود التي تم الإعلان عنها، جيد وإيجابي بشرط أن يكون بداية «خارطة طريق» تحدد ما بعدها، وبما يستدعي الشفافية، لاستنهاض الحالة الشعبية واستعادة ثقتها بقياداتها وفصائلها.