تكثر التصريحات التي تصدر عن مسؤولين مقدرين، بشأن الحرص على إزالة التمييز الذي تعرض له الموظفون العموميون في قطاع غزة منذ أكثر من ثلاث سنوات وأن السلطة الوطنية لا تتأخّر عن تلبية احتياجات القطاع.
إذا كانت هذه الموجة من التصريحات الواعدة، والتي تبدو على أنها تنطوي على اعتراف بتعرض أهل غزة للغبن، وتنطوي، أيضاً، على شيء من الاعتذار الخجول، فإن الفضل في ذلك يعود إلى المناخات الإيجابية التي تولّدت بعد اجتماع الأمناء العامين، ولقاءات «فتح» و»حماس» في تركيا.
غير أن التصريحات التي أدلى بها الوزير أحمد مجدلاني وأثارت ردود فعل، وتعليقات كثيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، ربما كانت واحدة من الأسباب التي أثارت هذه الموجة، رغم كل ما انطوت عليه تلك التصريحات من التباسات، وردود أفعال سلبية في العموم.
في الواقع فإن الموظفين العموميين تعرضوا للظلم منذ السنوات الأولى للانقسام حيث توقفت البدلات والترفيعات، وتم إلغاء بعض الحقوق فكانوا أحد الضحايا رغم أنهم التزموا بقرارات السلطة التي أمرتهم بالامتناع عن التواصل مع مواقع عملهم الرسمي، إلاّ القليل منهم في بعض قطاعات العمل الحيوية.
لا يغترن أحد أن الحكومة اتخذت، مؤخراً، قراراً بمساواة موظفي السلطة في الضفة بزملائهم في قطاع غزة، على خلفية الأزمة المالية التي تتعرض لها بسبب الضغوط الخارجية، وامتناعها عن استلام أموال المقاصة لأسباب وطنية مفهومة.
حتى في هذه الحالة فإن المساواة لم تتحقق، ففي حين يحصل الموظف العمومي في الضفة على نصف راتبه، فإن زملاءهم في غزة يحصلون على 50% من أصل 70% من رواتبهم. لتحقيق المساواة كان المفروض أن تتم عملية احتساب الرواتب على أساس 100% حتى ينتهي التمييز، وتنتهي معه، المعاناة، ومفاعيل القرارات الظالمة السابقة. لعلّ الأهمّ في كل هذا الملف خلفيات قرارات الخصم والتمييز، إذ إن ذلك يعود إلى حسابات خاطئة، قد أثبتت السنوات عقمها وفشلها، وبما يستدعي العودة عنها، والاعتذار للضحايا.
كان الأمر يتعلق بحسابات تتصل بتخفيض المستوى المعيشي لعشرات آلاف المواطنين الذين اعتادوا لسنوات على حياة معينة، حتى يشكل ذلك سبباً في تحفيز هذا القطاع، للاحتجاج على سلطة «حماس» وتحميلها المسؤولية المباشرة عن التقصير في توفير لقمة عيش كريمة لآلاف الأسر. لم يحصل ذلك، وكل ما حصل أن «حماس» تجاهلت مسؤوليتها عن هذا القطاع، فهي بالكاد تستطيع القيام بمسؤولياتها إزاء المنتسبين لسلطتها، والقيام بالحدّ الأدنى من الواجبات إزاء بقية أفراد المجتمع.
يشير هذا الفشل الذي استمر لسنوات إلى عمق وعي الشعب الفلسطيني لأولويات الصراع، بخلاف ما وقعت به الفصائل حين وقع الانقلاب.
الكل يؤكد على أن أولوية الصراع هي مع الاحتلال بالدرجة الأولى، لكن وقائع الأحداث اليومية أشارت إلى شيء من الغموض، فالأولوية لثبات الحكم، بذريعة توفير المناخ الداخلي لمقاومة الاحتلال. الشعب هو الذي عبّر كل الوقت عن أولوية الصراع مع الاحتلال، حتى حين تكررت حملات شبابية احتجاجاً على استمرار الانقسام، وللمطالبة بإنهائه.
النقطة الثانية في هذا السياق، هي أن المراهنة على مبادرات شبابية أو غير شبابية ضد سلطة الأمر الواقع لا يمكن أن تبلغ التأثير اللازم، طالما أن الفصائل والأساسية منها في موقع المتفرج والمكتفي بالكلام.
الشعب الفلسطيني حيوي، ومسيّس، وتنتظم أغلبيته في الفصائل، وهي التي تستطيع أن تحشد مئات وعشرات الآلاف، أو تتقلص عند مواجهة الأزمات الحقيقية، هذا بالإضافة إلى أن يد السلطات ثقيلة على الناس.
التمييز في التعامل مع الموظفين، إذاً، هو عمل سياسي وإداري فوقي وهو أحد منتجات الانقسام البغيض، وهو أي فعل التمييز ليس جزءاً من ثقافة الشعب الفلسطيني، الذي يتسم بالتسامح، والتبرؤ من العنصرية والطائفية بكل أنواعها وأشكالها.
إذا كانت الحسابات الخاطئة القائمة على أشكال وأساليب التعاطي مع الانقسام، وكيفية مواجهته، والصراع المرير بين حركتي فتح وحماس فإنه قد ترك ندوباً، بل جراحاً نفسية وثقافية واجتماعية غائرة لدى شريحة واسعة وهم الموظفون العموميون وألحق أذى كبيراً في قدرة الناس على الصمود، فضلاً عن الاكتئاب والشعور بالعجز لدى أرباب الأسر.
في غزة أيها السادة لم تعد هناك طبقة أو شريحة وسطى، فلقد اقتربت هذه الشريحة من القاع، حيث البطالة، والفقر الذي يسود المجتمع الفلسطيني. كان على المسؤول أن يتراجع سريعاً عن تلك الإجراءات التي تسببت في إفقار شريحة الموظفين العموميين لو أنهم اطلعوا على واقع الحال، وكان عليهم أن يستنتجوا سريعاً الفشل في تحقيق الأهداف التي راهن عليها حين قرر خصم الرواتب. لقد تحول الكثير من الموظفين إلى متسوّلين، يبحثون عن فرص عمل أخرى لسدّ العجز الناجم عن خصم الرواتب، والقروض المتراكمة لكنهم لا يجدون مخرجاً.
وليسأل المسؤول، سلطة النقد عن طبيعة المشاكل التي تواجه موظفي البنوك، حين يتم صرف الرواتب. الطوابير على الصرافات، طويلة، ومملّة، وبعضهم يعود إلى المنزل خائباً، أو لا يحصل على أكثر من مئة شيكل، أو أكثر قليلاً. بعض الموظفين يذهب إلى البنك طالباً سلفة بخمسين أو مئة شيكل فقط، لكنه يعود خائباً لأن البنوك ليست جمعيات خيرية.
اسألوا، أيضاً، عن المصائب الاجتماعية والنفسية، التي يتسببها العجز في الدخل الشهري للموظفين على عائلاتهم، وعلى قدرتهم لتلبية احتياجاتهم وليس فقط واجباتهم الاجتماعية.
إذا كان الهدف الأساسي والجوهري للمسؤول الذي يدير السياسة هو تعزيز صمود المواطن على أرضه، فإن ذلك يستدعي استدراك ما وقع، وعلى المسؤولين أن يصمتوا، إزاء هذه المأساة، طالما أن الحال لم يتبدل، فالكلام سواء كان إيجابياً أو سلبياً، له استحقاقات قد لا تظهر في الحال.