لا أعتقد أن ثمة جدلا حول تقييم الوضع العام لفلسطين والفلسطينيين وقضيتهم وأحوالهم العامة والخاصة. قد تتباين الآراء حول مدى سوء الأحوال وخطورة المرحلة، وعظم المصاب في هذه المرحلة ولكن أدّعي أن هناك توافقا إجماعيا بأن القضية وأهلها وفصائلها تمر في أزمة عميقة، بعمق الأزمة التي تضرب المشروع الوطني، وأحلام الفلسطينيين الصغيرة والكبيرة، وحتى أنها تضرب قيماً في العمل الوطني لشعب يبحث عن حريته واستقلاله.
محدودة المناسبات التي تستحق أن يحتفل بها شعبنا الذي تطفح صفحات كتابه بالمآسي من كل نوع. ولكن حتى حين تمر مناسبة كالذكرى الثالثة والثلاثين للانتفاضة الشعبية الكبرى، فإن الجميع يرفض أو يمتنع عن استثمارها، والتعامل معها بما يليق أو بما يزرع الأمل من جديد.
استمرت الانتفاضة لخمس سنوات، وكان من الممكن أن تتواصل لسنوات أخرى، لولا الاستعجال في استثمارها، ولم يكن الاستثمار جيداً على كل حال. الانتفاضة التي نقلت منظمة التحرير والفصائل، والكفاح الفلسطيني، إلى مرحلة استعادة القوة والمكانة، بعد ضعف شديد، وأزمات عميقة ومتتالية، فضلاً عن أنها قلبت الرأي العام الشعبي والرسمي العربي، نحو التأييد والدعم والتضامن مع القضية الفلسطينية وشعبها.
لسنا بصدد تقديم مطالعة تقييمية شاملة وعميقة لتلك الانتفاضة المجيدة، فربما يحتاج ذلك إلى غسان كنفاني، أو شخصية تقاربه من حيث سعة وعمق آفاق التفكير، لكنها كانت الأعظم، والأقوى والأشمل، والأطول في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني، والأكثر تأثيراً في السياسة.
يجتهد الباحثون في تحديد الأسباب والدوافع التي أدت إلى اندلاع تلك الانتفاضة الشاملة، ولكن حذار أن يتم الانطلاق من قاعدة الوضع الاقتصادي للناس أو حتى من أن استشهاد أربعة عمال فلسطينيين يمكن أن يكون السبب.
إن استشهاد العمال الأربعة كان فتيل تفجير الانتفاضة، لكن أسبابها تعود إلى عمق الوطنية الفلسطينية وعمق الالتزام بالكرامة والهوية، والرغبة الجامحة في تحقيق الحرية والاستقلال.
الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين قبل الانتفاضة، كانت جيدة، فالعمل متوفر، ومصادر الدخل، وحرية الحركة، حتى أن التلاميذ كان بإمكانهم الحصول على عمل خلال أيام الإجازات المدرسية. ووفق شهادات عديدة، من قبل أناس عاشوا مرحلة ما قبل الانتفاضة، فإن الفلسطينيين كانوا يعربدون على الإسرائيليين وسط مدنهم وتجمعاتهم، وكان بإمكان الفلسطينيين أن يتحركوا ويتنقلوا بسهولة في كل ارض فلسطين التاريخية.
الهزائم العربية في الحروب مع إسرائيل كانت ثقيلة الوطأة وشديدة التأثير في مسار البحث عن التحرر الوطني، لكنها أعادت توحيد الشعب الفلسطيني المتواجد على كل أرض فلسطين التاريخية، ووفرت مناخات التواصل الاجتماعي والسياسي والقيمي، ووضعت الصراع على سكته الموضوعية من حيث انه نضال كل الشعب الفلسطيني من أجل تحرير كل أرض فلسطين التاريخية.
لقد وضعت الانتفاضة طرفي الصراع وجهاً لوجه، ليثبت أي منهما جدارته في الحياة ويفصل في موضوع الحق.
وبرأينا فإن الشعب الفلسطيني عشية الانتفاضة، كان قد راكم الغضب على ما آلت إليه منظمة التحرير والنضال الفلسطيني بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، حتى احتل عاصمته، وأيضاً على الدور العربي المتخاذل والمتساوق مع الاحتلال الإسرائيلي.
لكأن العرب الرسميين كانوا ينتظرون فرصة إلقاء عبء منظمة التحرير، والقضية عن كاهلهم، فلم يذرف أحد من الزعماء العرب دمعة على ما آلت إليه أوضاع الثورة الفلسطينية.
لقد ظهر ذلك جلياً خلال القمة العربية التي عقدت في عمان قبل أشهر من اندلاع الانتفاضة التي جاءت رداً على محاولات بعض الأنظمة لإقصاء المنظمة عن مقعدها في القمة. كان الشعب الفلسطيني في الداخل قد طفح به الكيل، حتى لم يعد يحتمل المزيد من الضعف والخذلان العربي والتجاهل الدولي، ولم يكن أبداً للأمر علاقة بقيم الثأر الاجتماعي والرغبة في الانتقام.
والانتفاضة كانت عملاً شعبياً سلمياً خالصاً، حتى أصبحت نموذجاً انتشرت وسائل تعبيرها على مستوى العالم، وحفرت اسمها في لغات العالم كله.
حين يجري الحديث عن دروس الانتفاضة، يخطر على البال أنها أكدت مدى أهمية وحدة الشعب، ووحدة فصائله، خاصة حين نستذكر ما يعاني منه الشعب من انقسام خطير منذ أكثر من أربعة عشر عاماً.
في الحقيقة، فإن الشعب كان موحداً بكامل قواه داخل وخارج أرض فلسطين التاريخية، لكن على مستوى الفصائل فإن الانقسام كان موجوداً، وتمثل في وجود قيادتين وبرنامجين للانتفاضة واحدة باسم القيادة الوطنية الموحَّدة، والأخرى للحركة الإسلامية.
التضارب كان موجوداً في برامج النشاطات اليومية لكن ذلك لم يترك أثراً سلبياً بالقدر الذي ينال من المشهد الوحدوي، لأن الشعب هو قاعدة الوحدة. ميزان القوى الداخلي الفلسطيني حينذاك كان لصالح منظمة التحرير وفصائلها التي انضوت تحت القيادة الوطنية الموحَّدة الأمر الذي لم يترك فرصة لاستنزاف القوى في صراعات داخلية رغم وجود مشكلات وتضاربات كما يحصل في هذه الفترة، تنقسم الفصائل، وينقسم المجتمع، وتنقسم السلطات، وتنقسم الأهداف والدوافع، وتنقسم الجغرافيا على محدوديتها، وما أن يلوح بصيص الأمل باستعادة الوحدة، حتى يتبدد سريعاً، لتعود الأوضاع إلى أصولها من الصراع وتبادل الاتهامات والتحريض والحدّ من الحريات.
لقد تعايش الطرفان الوطني العلماني والإسلامي خلال مرحلة الانتفاضة وتمكنا من التوصل إلى الحد الأدنى من التوافق، فهل يمكن أن يجد الطرفان حلولاً مبدعة للانقسام الجاري أم ان اختلال موازين القوى بين الطرفين لا يسمح بذلك؟
ندرك أن الظروف قد تغيرت، ومن غير الممكن إسقاط العوامل الفاعلة خلال الانتفاضة، بالتي تحيط بالفلسطينيين وقضيتهم، اليوم، لكن الوحدة والوطنية تبقيان فوق كل القيم، والتبدلات والعوامل المؤثرة.
لقد كان لضعف الثقة بإمكانية مواصلة الشعب الفلسطيني انتفاضته، وبالتالي الاستعجال في تحقيق الاستثمار السياسي، دور أساسي فيما آلت إليه الأوضاع التي جاءت بعد توقف الانتفاضة، فهل يمكن لقيادات العمل الوطني بكل أطيافها، اليوم، أن تعيد الأمانة للشعب، وأن تستعيد الثقة بقدرته على تجاوز المحن والأزمات التي فشلت القيادات في تجاوزها؟