أقرب إلى السحر، ما جرى يومي الثامن والتاسع من هذا الشهر في القاهرة، لا ينفع في التنبؤ به، لا الفلكيون، ولا من يقرؤون الفنجان، ولا المحللون السياسيون وغير السياسيين.
يومان فقط، وبحضور أربعة عشر فصيلاً، كل منها ممثل بعدد من القيادات، هذا عدا المستشارين والمرافقين والمراقبين، والمتداخلين في الخارج ومن الداخل، يومان كانا كافيين للتوافق على بيان مشترك يتضمن معالجات لقائمة طويلة من القضايا الخلافية.
هكذا يبدو أن الخلاف والاختلاف صعب بين الفلسطينيين، لكن الاتفاق سهل إلى الحد الذي يوحي لمن لا يتابع الملف الفلسطيني عن كثب وكأن الجميع كانوا على توافق كان من الطبيعي أن يتوج باتفاق.
معلوم ان اتفاق القاهرة الجديد، يعالج كل ما له صلة بإجراء الانتخابات حتى لو كان ثمة بعض القضايا التي تحتاج إلى استكمال ستنعقد له جولة حوار أخرى في القاهرة في شهر آذار.
ولكن علينا أن نعلم بأن هذا الاتفاق. فقط سيشكل، أو نأمل أن يشكل، مدخلاً مناسباً لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على مختلف المستويات وليس فقط على المستوى الفوقي.
بعد كل هذه السهولة والسلاسة في إنتاج مثل هذا الاتفاق، ينتظر الناس الممارسة العملية، وإلّا فإنهم محقون إزاء التحفظ، وتجاهل هذا التطور المهم، فلقد اتفقت الأطراف مرات عديدة، واختلفت لكن النتائج كانت مجرد خيبات أمل متتالية.
من حيث المبدأ، فإن هذا الاتفاق والتوافق يقدم بشارة خير للفلسطينيين ومن يناصرهم، فهو حتى لو كان لا يؤدي إلى تغيير واقع الحال من حيث سيطرة «حماس» على قطاع غزة، و»فتح» والسلطة على الضفة الغربية، إلّا أنه ينطوي على أهمية كبيرة واستراتيجية.
أولاً، يؤمن هذا الاتفاق وإجراء الانتخابات في مواعيدها، إطاراً وطنياً شرعياً، وعبر صناديق الاقتراع، للبدء في معالجة أزمة الثقة، التي تحكم العلاقات الوطنية، وربما ترمم أزمة الثقة بين الفصائل والقيادات السياسية وبين القاعدة الاجتماعية.
ثانياً، يشكل وجود مجلس تشريعي، ومجلس وطني، إطاراً للحوار بين كافة الفرقاء السياسيين، من داخل النظام السياسي، وليس من خارجه، وبما يفرض قواعد لآداب الحوار غير التي حكمت الفرقاء خلال الخمس عشرة سنة المنصرمة.
ثالثاً، ينزع نجاح الفلسطينيين في هذا الملف، الذرائع التي استغلها المطبعون العرب، ويضعهم في حالة حرج، قد لا يؤدي إلى التراجع عما أقدموا عليه، ولكنه يلزمهم بخطاب سياسي، والمفروض فعل سياسي في اتجاه تحسين أدائهم في التعاطي مع القضية والحقوق الفلسطينية والعربية. علينا كفلسطينيين ان نراهن في هذا الإطار على ثلاثة عوامل: الأول هو ما يتعلق بالأداء الفلسطيني، والثاني يتعلق بمدى التزام الإدارة الأميركية بما ترتب عليها من التزامات إزاء اتفاقيات التطبيع، والثالث يتصل بغياب المصداقية والالتزام من قبل إسرائيل إزاء تنفيذ التزاماتها.
رابعاً، يؤدي النجاح في تنفيذ كامل رزنامة الانتخابات الى تجديد الشرعيات، وتعزيز البعد التمثيلي الحصري لمنظمة التحرير الفلسطينية، على مختلف الأصعدة وبالرغم من استمرار التباينات السياسية بين الأطراف المشاركة.
إن النضال من داخل منظمة التحرير، ينطوي على شراكة تنهي التفرد بالقرار، وتفرض حيوية غير مسبوقة على دور ومكانة وأداء منظمة التحرير كعنوان للتحرر الوطني، ونحو الاهتمام بأوضاع الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم.
ربما يتحسس البعض من الحديث عن إعادة بناء منظمة التحرير، ويفضل الحديث عن تفعيلها، ولكن في الحقيقة، فإن الأمر ينطوي على البعدين، سواء بما له علاقة بمشاركة «حماس» و»الجهاد» في اطر المنظمة، ومغادرة سياسة البديل عنها، او لجهة استثمار ذلك، في تفعيل اطر ودوائر ودور المنظمة ومجالات اهتمامها.
ولعل من أولى البشائر الإيجابية، التوجيهات التي أعطاها الرئيس المصري عبد التفاح السيسي، لفتح معبر رفح، وتحسين الأداء في العلاقة مع المسافرين. الرسالة المصرية إزاء المعبر، تقول، إن خلاف أو اتفاق الفلسطينيين هو السبب في غلق المعبر وفي المعاملة الصعبة والمؤلمة التي يتلقاها المسافرون في أثناء المغادرة والعودة من وإلى القطاع.
فتح معبر رفح، يقدم لسكان القطاع مؤشرا مهما على إمكانية تغيير جزء من واقع حالهم البائس، يأملون أن يؤدي إلى فتحه كل الوقت، وتقديم تسهيلات حقيقية ترفع عنهم المعاناة.
واضح أن السياسة لا تعرف المستحيل، فلقد بدا وكأن الافتراق السياسي بين نهجين يمكن ان يشكل العقبة الأصعب، ولكن يتضح، أن الاتفاق على القضايا الإجرائية الأخرى التي تتصل بآليات إجراء الانتخابات والمرجعية القضائية والإشراف هو الأكثر أهمية.
كان من المتوقع أن تتفق الأطراف على وثيقة الوفاق الوطني لعام 2006، أو وثيقة مشابهة، لكونها تعطي لكل طرف الفرصة لتفسير مواقفه، أو تبريرها، استناداً إلى تلك الوثيقة ودون أن ترغم أي طرف على التراجع عن رؤيته ومنهجه السياسي.
في الواقع، فإن الكل يعرف، بأن السلطة مستمرة في نهج البحث عن الحقوق من خلال المفاوضات، وانها لا تتوانى عن الاستجابة لدور مرتقب من واشنطن والمجتمع الدولي. وان السلطة أيضاً ماضية في الالتزام بالعمل وفق اتفاقياتها مع الاحتلال بما في ذلك التنسيق الأمني.
غير أن السياسة الواقعية تقتضي عدم التوقف عند حاضر الوقائع، فلعل القوى الرافضة لأوسلو والمفاوضات، ترى بأن ثمة نهاية لهذا الخط بضمان، السياسة الإسرائيلية التي تتسم بالتوسعية والعنصرية، ورفض التسليم بحقوق سياسية للفلسطينيين أو الالتزام بالقرارات الدولية.