بقلم: سليمان جودة
إلى ساعات قليلة مضت، كان لاعب الكريكيت السابق عمران خان يحكم باكستان، تماماً كما يحكم ليبيريا من سنوات جورج ويا، لاعب كرة القدم السابق! ورغم أن خان لاعب كريكيت محترف، ورغم أن له سمعة دولية في مجال احترافه، ورغم أنه حقق لبلاده مكانة في ساحة هذه اللعبة، فإنه وجد نفسه فجأة خارج الملعب السياسي من دون مقدمات. كان يحكم بلاده بأغلبية برلمانية نسبية حققها حزب «حركة إنصاف» الذي يرأسه، ولكن المعارضة توحدت فجأة هي أيضاً ضده، وسحبت منه الثقة رئيساً للوزراء، وأعطتها لشهباز شريف الذي جلس على رأس الحكومة.
ولأن نظام الحكم في باكستان نظام برلماني، فالصلاحيات كلها في يد رئيس الحكومة، وليست في يد رئيس الجمهورية، ولذلك، فجميع الذين يتابعون ما يجري هناك يعرفون اسم عمران خان، ولا يعرفون في المقابل أن في البلد رئيس جمهورية، وأن اسمه عارف علوي، وهذا ما ستجده بالضبط عند المقارنة بين رئيس وزراء إسرائيل وبين رئيسها، وكذلك الحال في كل عاصمة تأخذ بالنظام البرلماني وتعتمده.
وفي أجواء المعركة السياسية الساخنة بين الطرفين، وفي أثناء كل هذا الشد والجذب بين خان وشهباز، فإن اسم علوي لم يظهر إلا بالكاد، وإلا عندما حاول خان الهروب إلى الأمام وطلب من رئيس الجمهورية حل البرلمان، وحين استجاب الرئيس وأصدر قرار الحل بالفعل، فإن المعارضة ذهبت إلى المحكمة العليا التي أعادت البرلمان، فوجد عمران خان أنه يقف في مواجهة المصير الذي حاول الهرب منه بكل طريقة ممكنة!
وما يحدث في باكستان لا بد من أن نهتم به هنا، وأن يمثل جانباً من انشغالاتنا العامة لعدة أسباب؛ منها -مثلاً- أن هذه الدولة جزء من الشرق الأوسط الكبير بمعناه الواسع الممتد، فلا يزال الشرق الأوسط في أحد تعريفاته يفتح زاوية النظر لتشمل المغرب في أقصى الغرب إلى باكستان في أقصى الشرق.
ومن بين الأسباب أيضاً أنك إذا تطلعت إلى موقع باكستان على الخريطة فستجدها على حدود مباشرة مع إيران التي تنام على الشاطئ الشرقي للخليج العربي من شماله إلى جنوبه! وهناك سبب ثالث قد يكون أهم، هذا السبب هو أن باكستان دولة نووية، وهذا في حد ذاته سبب يكفي ليجعل من النزاع فيها على رئاسة الحكومة حدثاً يهم الآخرين حولها. إنَّ في يدها هذا السلاح الذي لا يتوفر إلا لدول في العالم معدودة على أصابع اليدين. ومن شأن وجود السلاح النووي لدى الدولة في عالمنا المعاصر أن يجعل الحركة السياسية المفاجئة في داخلها، من نوع ما جرى بين عمران وخصومه، عملاً يخص منطقتها كلها، ويكاد يخص العالم معها، ولا يخصها وحدها في موقعها بحدودها الأربعة.
والإشارة إلى نزاع على رئاسة الحكومة في باكستان، ليست من المبالغة في شيء؛ لأن خان نفسه قال إنه لا يعترف بالحكومة الجديدة ولا برئيسها، ثم إنه لم يتوقف عند هذا الحد، ولكنه أوعز إلى نواب «حركة الإنصاف» في البرلمان، فاستقالوا من المجلس النيابي. وعندما يستقيل 155 نائباً يمثلون الحركة في عمل السلطة التشريعية، من بين 342 نائباً هُم مجمل عدد نواب البرلمان، فإن لنا أن نتخيل حجم الخلل الذي يمكن أن يصيب أداء العمل البرلماني في دولة يحكمها نظام برلماني!
وإذا طاوعنا أنفسنا في إحصاء الأسباب التي تجعلنا شركاء من حيث الاهتمام في كل حدث باكستاني كبير، فسوف نجد كثيراً من الأسباب، غير أن هذه الأسباب الثلاثة المشار إليها تكفي في مقامها وتزيد، وتجعلنا نتطلع إلى أرض باكستان كما نتطلع إلى أرضنا التي نحيا فوقها ونعيش!
وربما يكون الشيء المثير في معركة خان مع الخصوم السياسيين الذين جردوه من منصبه من دون سابق إنذار، أنه تحدث عنهم باعتبارهم واجهة لمؤامرة خارجية فاعلة، وهو لم يتكلم عن المؤامرة في العموم، كما يجري الأمر عادة في مثل هذا الحديث على لسان أي سياسي، ولكنه سمى الطرف الواقف وراء المؤامرة، ولم يشأ أن يخفيه أو حتى يشير إليه من بعيد. لقد سمى الولايات المتحدة صراحة، وكان تقديره أن زيارته إلى موسكو في اليوم نفسه لبدء الحرب على أوكرانيا، في الرابع والعشرين من الشهر قبل الماضي، هي السبب الأساسي الذي حرض واشنطن عليه. وكانت هناك في ظنه أسباب أخرى، من بينها انتقاداته التي يعلنها في حق السياسة الأميركية، سواء في أفغانستان هذه الأيام، أو في أرض العراق من زمن!
والسؤال هو: هل يمكن أن تكون إدارة جو بايدن وراء انقلاب المعارضة المفاجئ على خان؟! من ناحية المبدأ: ممكن جداً، وإذا صح اتهامه لها فلن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي تتدخل فيها الولايات المتحدة لإقصاء حاكم من مكانه، بمثل ما أنها ليست المرة الأولى، فالتاريخ مليء بالحالات والأمثلة، وفي أميركا الجنوبية وحدها ما يكفي ويزيد من الحالات! ولكن السبب الذي يسوقه خان ليس مقنعاً، وإلا فماذا ستفعل العاصمة الأميركية مع رؤساء دول وحكومات عديدة حول العالم، لم يتحمسوا لعقوباتها مع أوروبا وحلفائهما على روسيا، ولم يطاوعوها في إحكام الخناق حول رقبة موسكو، ولم يذهبوا مذهبها منذ بدأت الحرب الروسية في أوكرانيا، ولم يمشوا وراءها فيما تريده وترغبه من يوم بداية الحرب؟! هل ستعمل في مرحلة لاحقة على إسقاطهم جميعاً كما أسقطت عمران خان في باكستان؟ وهل ستتعقبهم كلهم كما راحت تتعقبه وتسلط عليه المعارضة؟! عملياً يبدو الأمر صعباً، وسياسياً يبدو الأمر أصعب؛ لأن لسان حال الولايات المتحدة في هذه الفترة لا يكشف عن انخراطها في سياسات من نوع ما يتحدث عنه خان، بقدر ما يكشف عن سياسات احتواء، وسياسات حشد لمزيد من الحلفاء، لا عن سياسات إضافة خصوم آخرين على قائمة خصومها، وهي تدفع أوكرانيا إلى خوض حرب بالوكالة ضد الروس.
أما شهباز شريف، فما كاد يتسلم عمله الجديد حتى راح يقطع الطريق على عمران في هذه المسألة ويقول إنه لو تقدم أحد بدليل واحد على أن واشنطن تدعم قرار المعارضة سحب الثقة من رئيس الحكومة السابق، فسيستقيل من موقعه على الفور! وهو بالطبع يعرف ماذا يقول؛ لأن هذه أمور من الصعب تقديم أدلة ملموسة عليها، ولأنها أمور قد يحسها الجالس في مكان عمران قبل سحب الثقة منه، ولا يجد فيها ما يمسكه بيديه، ولو كان من الممكن تقديم دليل لكان هذا الدليل قد ظهر وتسرب منذ اللحظة الأولى التي تحفزت فيها المعارضة وتحركت! ولكن هذا لا ينفي أن نظل نفتش عن السبب الذي جعل الغطاء السياسي يرتفع بهذا الشكل المفاجئ عن لاعب الكريكيت البارع، فيفقد منصبه الرفيع في غمضة عين، كما أن هذا أيضاً لا ينفي أن نذهب إلى البحث عن السر الذي جعل براعة الرجل الرياضية في ساحة الكريكيت تخونه، فلا تسعفه في البقاء داخل مشهد سياسي بقي في القلب منه ما يقرب من أعوام أربعة.
إن شهباز يتحدث عن تراجع غير مسبوق في سعر الروبية، وعن عجز في الموازنة العامة للدولة، وعن عجز في الميزان التجاري، وبالإجمال عن «إنقاذ القارب من الغرق»، وكلها أشياء لم تكن محل كلام ولا تداول في الإعلام إلى ما قبل رحيل عمران بساعة.
فماذا جرى؟! وما الذي استجد؟! الواقع يقول إن السر موجود في جيب الجنرال قمر جاويد باجوا، قائد الجيش الباكستاني؛ لأن الجيش منذ استقلال البلاد عن الهند في 1947، هو تقريباً أهل الحل والعقد فيها، وهو الذي يرفع الغطاء السياسي للحكومات وهو الذي يضعه، وما سوى ذلك تفاصيل في داخل الإطار العام!