بقلم: سليمان جودة
ليس أشبه بحكومات الشيخ صباح الخالد الأربع، التي قام بتشكيلها في الكويت مرة من وراء مرة، سوى الحكومات الأربع التي تشكلت في القاهرة في الأشهر الستة الأولى من عام 1952.
ففي وقتها تشكلت في البداية حكومة علي ماهر، ثم حكومة نجيب الهلالي، ثم حكومة حسين سري، ثم حكومة نجيب الهلالي من جديد. وقد جرى هذا كله في حيز زمني لم يتجاوز نصف السنة، وكان ذلك في الفترة التي أعقبت حريق القاهرة الشهير الذي شب في السادس والعشرين من يناير (كانون الثاني) من ذلك العام.
والقصة كاملة بين الملك فاروق وبين حكوماته الأربع المتوالية موجودة في كتاب أصدره موسى صبري بعنوان: قصة ملك وأربع وزارات!
وعندما تقدم الشيخ صباح الخالد باستقالة حكومته هذا الأسبوع، إلى ولي العهد الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، بدا الزمان كأنه يعيد نفسه ما بين منتصف القرن العشرين، وبدايات القرن الحادي والعشرين، في كل من القاهرة والكويت العاصمة.
وقد قيل عند تقديم الاستقالة من جانبه أن هذه هي الحكومة الرابعة التي يقودها الشيخ صباح في بحر عامين ونصف العام، منذ أن تلقى تكليفاً من الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، بتشكيل أولى حكوماته في خريف 2019.
ومعنى هذا أن كل حكومة من حكومات الرجل بقيت في مقاعدها ستة أشهر تقريباً، وهي فترة تساوي ما بقيته حكومات فاروق الأربع معاً. وقد جرى العرف على أن بدء محاسبة أي حكومة من جانب الرأي العام، أو حتى من جانب الصحافة، لا يكون قبل مرور مائة يوم على وجودها في مكانها، لأنها خلال المائة يوم الأولى لها تكون في حاجة إلى فهم ملفاتها، وتكون في حاجة أكثر إلى أن تتحسس مواقع أقدامها.
وقيل في ذلك هذه العبارة: «لا تذمّ ولا تشكر... قبل مُضيّ ستة أشهر». وهي عبارة بدت، ولا تزال، كأنها تلخّص كتاب حساب ومساءلة الحكومات.
وكان سبب الاستقالة أن نواباً في البرلمان أيّدوا طلباً يدعو إلى «عدم التعاون» مع رئيس الحكومة، وقد وصل عددهم إلى 25 نائباً في مجلس الأمة، وحين يكون العدد على هذا النحو فهو ليس قليلاً بأي معيار كويتي.
وما تواجهه حكومات الشيخ صباح منذ تكليفه بالحكومة الأولى، لا يقتصر عليه هو ولا على حكوماته في عمومها، ولكنه يمتد إلى وزرائه أنفسهم وزيراً من بعد وزير، وقد وصل الأمر مع وزير الدفاع السابق إلى حد أنه تلقى استجواباً من مجلس الأمة بعد أدائه اليمين الدستورية مباشرةً، فقال على سبيل الدعابة إنه أول وزير في الكويت يتعرض للاستجواب بعد تسلمه مهام منصبه بستّ ساعات!
وما حدث معه تكرر مع وزراء آخرين في الحكومة، وكانت النتيجة أنه قدم استقالته مع وزير الداخلية في وقت واحد قبل أسابيع، ولم يجد الأمير الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح مفراً وقتها من أن يكلف وزيرين في الحكومة بالقيام بأعمال الوزيرين المستقيلين، إلى أن جاء في مكانيهما وزيران جديدان، ولكنهما ما لبثا أن وجد نفسيهما مستقيلين ضمن الحكومة المستقيلة كلها قبل يومين اثنين!
ورغم أن الاستجواب هو ذروة أدوات الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة، فإن عدداً لا بأس به من نواب مجلس الأمة الكويتي قد أساء فهمه وفهم دوره في أداء الرقابة من هذا النوع إلى أبعد مدى، وبدا الاستجواب في الكثير من الأحوال كأن الذين يتقدمون به في قاعة عبد الله السالم التي تنعقد فيها الجلسات، إنما يتقدمون به كغاية في حد ذاته، لا بوصفه وسيلة أو أداة رقابية برلمانية يستطيع بها النواب المنتخبون ممارسة الرقابة الجادة على أعمال الحكومة!
وقد عانى الأمير الراحل من وضع كهذا كثيراً، وكان يواجهه بحل البرلمان نفسه لا بتشكيل حكومة جديدة، كلما جرى تقديم استجواب جديد سواء لرئيس الحكومة وقتها أو لوزير فيها، ولم يكن الشيخ صباح، يرحمه الله، يجد حرجاً في حل البرلمان لإنهاء المشكلة بين المجلس وبين الحكومة، وقد وصل الأمر معه إلى درجة أنه حل مجلس الأمة مرتين في عام واحد!
ولكنّ الأمير الحالي الشيخ نواف يؤمن بالعكس، وهذا العكس هو استقالة الحكومة في كل مرة تتأزم فيها الأمور، لا حل البرلمان، ربما لأنه يرى أن الشيخ صباح الخالد هو الأنسب لرئاسة الحكومة، ولذلك، فإنه يعيده إلى رئاسة مجلس الوزراء في كل المرات!
وإيمان الشيخ نواف بهذا النهج المعاكس ربما يكون راجعاً إلى أن عودة رئيس الحكومة نفسه في كل مرة، إنما تنطوي على الرغبة في تحقيق شكل من أشكال الاستقرار في عمل الحكومة بشكل غير مباشر.
هذه مدرسة أو هي وجهة نظر في موضوعها، ولكنها لا تنفي أن البرلمان لا يزال غير قادر في الغالبية من أعضائه على استيعاب حقيقة قانونية برلمانية ثابتة تقول إن الاستجواب وسيلة من وسائل العمل البرلماني، وليس هدفاً أو غاية، ويجب ألا يكون، وإلا فلن تبقى حكومة في مكانها إذا كان هذا الفهم لطبيعة الاستجواب هو الفهم السائد في قاعات البرلمانات!
ورغم أن التجربة البرلمانية في الكويت من أقدم التجارب البرلمانية في الخليج، بل هي أقدم هذه التجارب، فإنها لم تؤسس تقاليد مستقرة في العمل البرلماني على طول المسافة الزمنية من استقلال البلاد إلى اليوم، ولو كانت قد نجحت في ذلك ما كان البرلمان قد ذهب إلى طريق الحل كلما تشكَّل، في أيام الأمير الراحل الشيخ صباح، وما كانت الحكومة قد واجهت استقالتها في كل مرة بدا لها شبح استجواب جديد من بعيد، في زمن الأمير الحالي الشيخ نواف!
الكويت بلد صاحب تجربة برلمانية كبيرة في تشريع القوانين وفي ممارسة الرقابة على أعمال الحكومة، ولكنها تجربة يهدرها هذا الشد والجذب بغير نهاية، بين الحكومة من ناحية وبين طائفة من النواب في كل برلمان جديد من ناحية أخرى، كما أن ما يتواصل بلا سقف في قاعة مجلس الأمة يفرغ التجربة ليس من مضمونها ولكن من تاريخها الطويل!
وليس سراً أن السياسة التي لعنها الأستاذ الإمام محمد عبده، ولعن كل مفرداتها من ساس، إلى سائس، إلى يسوس، إلى مَسوس، هي التي تقف وراء البرلمانات المتلاحقة في الكويت في زمن، والحكومات المتتابعة فيها في زمن آخر. هي السياسة لا القانون الذي يحكم عمل البرلمان في الكويت وفي غير الكويت. هي السياسة لأن حاصل جمع اثنين زائد اثنين في لغة القانون المنضبطة بطبيعتها لا يساوي غير أربعة، ولكن حاصل الجمع نفسه في نظر الساسة والسياسة يمكن جداً أن يكون أي رقم إلا أن يكون أربعة!