بقلم :سليمان جودة
الذين طالعوا كتاب «سعادة السفير» لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، سوف يكونون أقدر الناس على فهم ما يقوله رئيس إيران الجديد إبراهيم رئيسي، وسوف يكون من السهل عليهم وضع كل كلمة تصدر عنه في إطارها الصحيح.
الكتاب صدر في عام 2017 عن دار أوال للدراسات والتوثيق في بيروت، وكان محل جدل يوم صدر في الأسواق قبل أربع سنوات، رغم أن صاحبه دبلوماسي بحكم وجوده على رأس الخارجية الإيرانية لفترة طويلة، فالدبلوماسية بطبيعتها تجعل المشتغل بها أقرب إلى التحفظ في السلوك وفي الكلام منه إلى أي شيء آخر، وتجعله قادراً على أن يرد على كل سؤال يتلقاه بما يعني «نعم»، ويعني «لا» في وقت واحد!
ولكن الدبلوماسية بكل طبيعتها المتحفظة لم تجعل ظريف قادراً على إخفاء ما لا يمكن إخفاؤه في بلاده، من حيث انفراد جهة بعينها بصناعة القرار، ومن حيث الحدود التي يتصرف داخلها كل مسؤول سياسي إيراني، ومن حيث حجم ما في يد الرئيس الإيراني من صلاحيات، عند المقارنة بين ما في يده من هذه الصلاحيات، وبين ما في يد مرشد الثورة علي خامنئي منها!
وهذا ينطبق على كل رئيس إيراني بدءاً من الحسن بني صدر، أول الرؤساء الإيرانيين فيما بعد قيام الثورة عام 1979، أيام أن كان المرشد هو آية الله الخميني، وصولاً إلى إبراهيم رئيسي، آخر الرؤساء الواقفين في الطابور أمام باب مرشد الثورة!
لا يأتي ذكر المرشد في الكتاب إلا ويشار إليه بكلمتين اثنتين لا تتغيران من أول صفحة إلى آخر الصفحات، فعندما يقال «السيد القائد»، فالقارئ سيفهم من السياق على الفور أن المقصود هو علي خامنئي، وأنه لا أحد سواه يحمل هذه الصفة في البلد، رغم أن حاملها ليس قائداً عسكرياً، ولا هو من قادة الميادين في الحروب الذين اعتدنا منهم أن يحملوا صفة من هذا النوع.
ويقطع صاحب الكتاب في كل صفحاته، بأنه لا أحد في إيران من المسؤولين السياسيين قادر على أن يتصرف في أمر من أمور السياسة العليا، إلا إذا عاد إلى السيد القائد الذي يضع من الخطوط العامة في كل القضايا الكبرى ما لا يستطيع الرئيس الإيراني نفسه الخروج عليها إلا بالعودة إليه!
يقول ظريف هذا الكلام باعتباره حقيقة لا تقبل النقاش ولا المساومة، وباعتبار أن كل الذين هُم دون المرشد في سلم السلطة يفهمون ذلك ويستوعبونه تماماً، وليس من الوارد أن يبادروا إلى فعل شيء في سياسة إيران الخارجية بالذات، ما لم يكن المرشد قد وافق وأقر وأشار وقال!
هذا كله سوف لا يغيب عن نظر قارئ هذا الكتاب ولا عن عقله، وهو يسمع الرئيس الجديد يقول في حفل تنصيبه الذي أقيم يوم 5 أغسطس (آب) وحضره مدعوون إيرانيون وأجانب في طهران، أنه يمد يده بالحوار إلى جميع الدول في المنطقة، وخصوصاً إلى الدول المجاورة أو دول الجوار، وأن الحوار هو السبيل الوحيد إلى حل مختلف القضايا في الإقليم.
وقد جرت العادة على أن ما يقال في حفل التنصيب على لسان أي مسؤول في أي بلد، هو بمثابة برنامج عمل سوف تجري ترجمته على الأرض في صورة سياسات عملية طوال سنوات وجود هذا المسؤول في منصبه.
وفي حالة رئيسي فإنه بالكاد يبدأ عمله في مكانه، ولا سبيل إلى اختبار صدق حديثه من عدمه، سوى إخضاع هذا الحديث للتجربة الحية، ولن يتحقق هذا ولا شيء منه إلا إذا قضى الرئيس الإيراني الجديد بعض الوقت في منصبه، لنرى ما إذا كان يعني ما يقول، أم أن ما يقوله من نوع الكلام الحلو الذي لا بد أن يقال في حفل تنصيب يتابعه العالم من بعيد، ويريد أن يتعرف منه على فكر رئيس جديد جاء إلى مقعده لسنوات أربع قادمة؟!
صحيح أن لدينا في تراثنا الشعبي المتراكم ما ينصحنا بألا نمتدح ولا نشكر رجلاً وصل إلى السلطة إلا بعد ستة أشهر، ولكن الأصح أن لدينا في التراث نفسه ما يقول إن «الجواب يبان من عنوانه» وبعبارة أخرى، فإن المقدمات تؤدي إلى نتائجها.
ولكن المشكلة مع الرئيس الجديد مشكلتان، تماماً كما كان الحال مع الرئيس السابق حسن روحاني، الذي ردد في زمانه ما قاله رئيسي بالضبط في حفل التنصيب!
المشكلة الأولى أن هذه ليست المرة التي يقال فيها هذا الكلام، وليست المناسبة الأولى التي تتردد فيها هذه النبرة على أسماعنا، سواء على لسان جواد ظريف، أو حتى على لسان حسن روحاني نفسه، أو من جانب مسؤولين إيرانيين سابقين عليهما، وفي كل المرات كانت الكلمات تسقط عند كل اختبار، لأن الذين يتابعونها كانوا يتطلعون إلى رصيدها في السياسة العملية لإيران فلا يقعون على شيء، فكانت هي والسراب الخادع في الصحراء سواء في كل المرات.
فهل سيكون حظ رئيسي مع كلماته، ووعوده، وآماله المعلنة، بأفضل من حظ ظريف أو حظ روحاني؟!... هذا ما لا يستطيع أحد القطع به إلا إذا راح يرصد حركة الرئيس الجديد، ليرى مدى قدرته على أن يطبق ما يقوله، وعلى أن يكون صاحب سياسة يضعها هو ولا يوجه بها المرشد من بعيد.
أما المشكلة الثانية فهي أعقد، لأنها تتعلق أكثر بمركز صناعة القرار نفسه في العاصمة الإيرانية، وتتعلق أكثر وأكثر بمدى اقتناع هذا المركز بما كان رئيسي يردده ويقوله في حفل تنصيبه، فالفيصل فيما قيل وفيما تردد هو بما في عقل المرشد ذاته، وبما إذا كان يؤمن حقاً بالحوار في قضايا الإقليم، وبضرورة مد يده إلى دول الجوار، فلا معنى لأن يظل الرئيس المنتخب يقول ويقول، بينما مرشد الثورة في مكانه له رأي آخر، وعنده يقين مختلف، ولديه وجهة نظر أخرى!
الأمر يظل لدى السيد القائد على حد تعبير ظريف في كتابه، وليس عند روحاني، ولا عند نجاد من قبله، ولا عند الرئيس الحالي، ولا حتى عند الرئيس المقبل.
كم من مرة تكلم فيها روحاني على سبيل المثال عن مد يده بالحوار إلى دول الحوار، ثم فوجئنا في اللحظة نفسها بأن يد إيران تمتد بالفعل، ولكنها تمتد لتلعب وتعبث في بغداد مرة، وفي دمشق مرة ثانية، وفي بيروت مرة ثالثة، وفي صنعاء مرة رابعة، لا لتتحاور أبداً، ولا لتحترم سيادة هذه الدول وغيرها مما تصفها إيران بأنها دول جوار وترغب في أن يدور معها حوار؟!
وسوف تظل المشكلة الأكبر هناك في مكتب المرشد، ولن تكون في مكتب الرئيس في أي وقت، والذين يتعاملون مع إيران في الإقليم يضيعون وقتهم، ويستهلكون جهدهم، إذا لم يتعاملوا معها على أساس هذه الحقيقة التي من كثرة ما يدل على صدقها من تجارب متكررة لا تحتاج إلى برهان!
إننا مدعوون إلى تصديق الرئيس المنتخب ولو نظرياً في أنه يرغب فعلاً في مد يده، ولكن الفكرة في الموضوع بكامله أن المرشد الذي يجيء بالرئيس ويختاره ويضع سياساته بنفسه لا يمد يده، وإذا مدها فبالمعنى المتعارف عليه في التراث الشعبي المصري، الذي يفهم مد اليد على أنه سطو على ما في أيدي الآخرين!
الرئيس الإيراني السابق دعا مراراً إلى الحوار مع دول الجوار، ثم ماتت الدعوة في مكانها في كل مرة، لأن صاحبها لم يكن يملك أن يحولها إلى برنامج عمل، وهو ما لا يملكه رئيسي أيضاً، إلا إذا أقنع المرشد بأن إرهاق المنطقة لما يزيد على أربعة عقود من عمر الثورة يكفي ويزيد، وأن تداعيات ما تمارسه الجمهورية الإيرانية تطالها بقدر ما تطال غيرها، وأن الحوار مع دول الجوار هو الحل بالفعل، لولا أنه ليس كلاماً تطلقه الجمهورية في حفلات التنصيب، ولكنه إيمان به وبجدواه وبما يحمله من آمال.