بمعزل عن الجهود المبذولة لتوليد الحكومة العتيدة، لا بدّ من الإعتراف انّ المسؤولين اللبنانيين يتقنون فن اللعب على حافة الهاوية. فكل التقارير التي في حوزتهم تنبئ بما هو خطير على اكثر من مستوى، ولا سيما منها تلك التي تفتح الطريق امام اي خرق امني مُحتمل، من دون ان يتزحزح اي منهم عن موقفه، لملاقاة الجهد الدولي المبذول لتجنيب لبنان الأسوأ. لماذا وكيف؟
لم يستوعب المراقبون المحليون والديبلوماسيون الأجانب بعد حجم التردّد الذي يعبّر عنه اهل السلطة في الإقدام على الخطوات الآيلة الى تشكيل الحكومة، وما يمكن ان يقوم به كل منهم، لتقديم اولى المؤشرات المطلوبة لتجاوب اللبنانيين مع ما هو مطروح للخروج من مسلسل الأزمات التي تعيشها البلاد. والأخطر، انّهم يقدّمون يومياً النموذج الأصرح لحوار الطرشان والخلاف حول جنس الملائكة. فهم ماضون في غيهم، متمسكون بمواقفهم من على منصاتهم المتقابلة، تسريباً وتهريباً للاتهامات والمكائد المنصوبة، عبر استغلال كل ادوات السلطة من أمنية وقضائية او إدارية.
والأخطر باعتراف الوسطاء المقيمين والمتدخلين من خارج الحدود، سواء في الإتصالات الهاتفية المفتوحة او عبر حركة الموفدين، فهم مستمرون في العمل بطريقة لا تؤدي الى التلاقي والتوافق على اي من القرارات والخطوات المطلوبة، من اجل ولوج مرحلة تسمح بمواجهة الأزمات والتخفيف من نتائجها السلبية المرتقبة، رغم توحيد الشعارات التي رُفعت في اكثر من مناسبة، وتثبت معرفتهم الدقيقة بما يجب القيام به، إن تخلّوا عن المكاسب الآنية والظرفية.
وعلى هذه الخلفيات، التقت المراجع الديبلوماسية والسياسية على التحذير مما هو آتٍ. فالإحتقان الشعبي بلغ الذروة، ودخل العوز الى بيوت عشرات الآلاف من العائلات التي فقد اربابها اعمالهم وسُدّت امامهم فرص العمل كما ابواب الهجرة، وبات الغضب والشر يسكنها، بما يؤشر الى ارتفاع منسوب القهر والحقد الذي يمكن ان يقود اي عاقل الى ما لا تُحمد عقباه.
قبل ثلاثة اسابيع رفعت قيادات امنية واستخبارية تقاريرها الى المسؤولين الكبار، تحذّر من حجم المخاوف من انفلات الشارع في اكثر من منطقة حساسة، وقدّرت البطالة بما يزيد على 43 % من نسبة اليد العاملة، وأُقفل ما يساوي 47 % من المؤسسات التجارية الصغيرة ومنها السياحية، بنسبة تزيد على 71 % في العاصمة، حيث الثقل التجاري والسياحي، وسُدّت ابواب الخارج امام مجموعات الراغبين في العمل، وعاد ما نسبته 31 % من الطلاب اللبنانيين في الخارج.
والى هذه النماذج التي يمكن ان تهتز لها المواقع، قدّرت المراجع الأمنية قرب الانهيار الإقتصادي والتجاري، بعدما قرأت المؤشرات الإقتصادية والمالية والنقدية بطريقة مرعبة جداً، مسترشدة بخبراء من خارج نادي المستشارين، والتي تتحدث عن عمليات إخفاء للمعلومات في حسابات المالية العامة ومصرف لبنان والموازنات العائدة لمؤسسات كبرى تدير قطاعات خدماتية، بما يُنذر بوقف كل اعمال الصيانة والتجديد الضرورية في قطاعات حيوية، تشل ما تبقّى من الحركة في البلاد، وتقود الى هجرة من لا يزال يؤمن بديمومة لبنان والقدرة على ممارسة نشاطاتهم فيه. ولم تخف التقارير الموثقة، والتي جُمعت من اكثر من مصدر، وأُجريت جدولتها قياساً على حجم التخوف من انهيارات اقليمية، تنذر بأقسى المواجهات بين احلاف كبرى تدور رحاها في المنطقة، فيرزح تحتها اللبنانيون ان انعكست بنسبة قليلة عليهم.
ومن هذه المنطلقات بالذات دقّ جرس الإنذار أكثر من مرة، وتلاقت هذه التحذيرات مع مجموعة من التحركات الدولية الغاضبة تجاه ما يتعرّض له اللبنانيون، الذين انقادوا الى «المقاصل» لإعدامهم بقرارات تؤدي الى تسريع الإنهيار الكبير الذي يخشاه العالم، ولم يره اي مسؤول لبناني بعد. ولذلك ابلغ احد الديبلوماسيين الى من التقاهم في الايام القليلة الماضية، ان لا مؤشر حتى اللحظة يوحي أنّ بعض المسؤولين قد تبلّغوا ما آلت اليه أوضاع البلاد والعباد، وقد يؤدي ذلك الى إجراءات قاسية تتجاوز في مخاطرها المباشرة ما أتُخذ من عقوبات طاولت شخصيات ومؤسسات لا بدّ من ان تُحتسب نتائجها على المديين المتوسط والبعيد إن لم يشعروا بها على الفور.
والى هذه المؤشرات السلبية، تحدث احد الديبلوماسيين منذ ايام عن «اعجابه» بقدرة المسؤولين اللبنانيين من اركان السلطة، في اللعب على حدّ السكين، وما عبّروا عنه من جرأة على تحدّي العقل والمنطق بذهنية قديمة تؤدي الى مزيد من الانهيارات، في علاقات اللبنانيين في ما بينهم وفي نظرة المجتمع الدولي اليهم. وإذ لم يشأ الديبلوماسي الكشف او التعبير بطريقة اكثر وضوحاً، لفت الى سلسلة المقالب التي تُرتكب تحت شعار «التدقيق الجنائي» في الوزارات والمؤسسات العامة ومصرف لبنان، قبل ان يجف حبر التقارير التي تتحدث عن حجم الفساد المستشري، والذي لا تحتاج مكافحته الى قوانين جديدة أو تعديل ما هو موجود. واللافت، انّه وبدل المضي بما تعهّد به اللبنانيون بموجب المبادرة الفرنسية والمباركة الاوروبية والأميركية لها، صدرت التعليمات لفتح بعض الملفات التي تنذر بإمكان تفجّر العلاقات بين اللبنانيين عن قصد او غير قصد، وهو ما وضعته بعض الجهات المراقبة تحت عنوان التشفي واستخدام السلطات بإمكاناتها المختلفة قيد التجربة، على خلفيات كيدية وحسابات ضيّقة، لا تنذر سوى بتفجّر الداخل، في وقت تحتاج البلاد الى نوع من التضامن المفقود.
وان كان هذا الملف قد إعتُبِرَ في نظر احد الموفدين الاجانب من اخطر المؤشرات التي تنعى الحديث عن «التدقيق الجنائي» في حسابات القطاعين المصرفي والإداري، فإنّها تُنبئ بكثير من «الخبث» المدسوس في «دسم» الموافقة على الاصلاحات الشاملة التي لا تستثني احداً. فإضطر الى التحدث لأحد المسؤولين في وضوح وصراحة غير مسبوقة، سائلاً عن الترددات التي تسببت بها إحالة مجموعة من الضباط المتقاعدين الى القضاء ومجموعة أخرى من الإداريين في احدى الوزارات، بنحو يوحي بإستحالة التدقيق الجنائي في المؤسسات الكبرى مالية كانت ام خدماتية وإدارية.
وعند هذه المقاربات السلبية تصرّ المراجع على الإشارة الى انّ البلد «على فوهة بركان». وإنّ مواجهة ما هو قائم تحتاج الى قرارات وخطوات استثنائية لا يمكن تأجيلها. فالرابح الكبير إن اتُخذت سيكون لبنان واللبنانيين، وإن فشلت سيكون البلد قد دخل مرحلة خطيرة من الصعب مواجهة تردداتها. وعليه لا بدّ من الإشارة الى انّ العالم بات على علم مسبق بقدرة اللبنانيين على اللعب في حافة الهاوية وبطريقة تشبه لعبة «الروليت الروسية». فهل يمكن ان يُقدم احدهم على اطلاق النار على رجليه لينال حظوة المساعدات الدولية، او يقتل أُمه ليذهب رحلة مع الايتام؟