بقلم : جورج شاهين
عندما اعلن مصرف لبنان انّه سلّم مفوض الحكومة لديه المستندات والمعلومات المطلوبة من اجل «التدقيق الجنائي» وفقاً لما تعهّد به لوزير المال، ملتزماً «القوانين اللبنانية النافذة»، فإنّ هذا يعني انّ المواجهة قد اتخذت طابعها القانوني بنحو قد لا يسمح لشركة «Alvarez & Marsal» بإتمام المهمة الموكلة اليها، او يُعقّدها على الأقل. وعليه، هل من إجراء بديل لو ارادوا مثل هذا التدقيق؟
لم يعد خافياً على احد، انّ حجم المواجهة المتوقعة بين مصرف لبنان واركان العهد حكماً وحكومة، قد بلغ حدودًا خطيرة لم تشهدها العلاقة في تاريخ العلاقات بين القطاع المصرفي والدولة، وهو ما دفع الى الإعتقاد، أنّه سيكون هناك عدد كبير من الضحايا يتعاظم يوماً بعد يوم قياساً الى حجم ما لحق بالوضع النقدي وتدهور سعر الليرة اللبنانية بالنسبة الى العملات الأجنبية المفقودة من الأسواق، وارتفاع مستوى الفقر والعوز، الى نسبة لم يتوقعها احد من قبل.
وعلى رغم من هذه الصورة القاتمة التي عمّت اللبنانيين، فإنّه ما زال هناك بين اهل الحكم، من يمنن اللبنانيين بالنتائج التي يمكن ان يفضي اليها «التدقيق الجنائي» في حسابات مصرف لبنان المركزي، بعدما اتخذت الحكومة قراراً باعتبار هذا المصرف والمصارف اللبنانية قد افلست، وانّه لم يعد من وسيلة اخرى لاستعادة المال المنهوب او الموهوب، سوى مثل هذه الآلية الصعبة والمعقّدة، التي لا يمكن ان تؤدي الى النتائج التي يتحدثون عنها. فهم يعرفون مجموعة القوانين التي تحول دونها، ولا سيما منها تلك التي تحدث عنها قانون النقد والتسليف وقانون السرّية المصرفية، عدا عن الواقع الجديد الذي نشأ، من خلال تعطيل كل السبل التي كانت تؤدي الى وضع قانون «الكابيتال كونترول» في الأيام الأولى للأزمة المالية التي نشأت بعد اقفال المصارف عقب انتفاضة 17 تشرين الماضي.
فقد كان واضحاً، باعتراف اكثرية الخبراء في شؤون النقد والمال، انّ التمنّع او عرقلة السعي الى قانون «الكابيتال كونترول»، لم يكن بهدف حماية اموال المودعين، بل كان لتسهيل عمليات تحويل وتهريب أموال للسياسيين والنافذين من اصحاب المصارف والمستثمرين فيها، الى حسابات خارجية، ومعهم اهل الحكم والحكومة، بلا ضوابط قانونية. فهل نسي البعض انّ رئيس حكومة «مواجهة التحدّيات» المستقيل الدكتور حسان دياب قد اصرّ على ادارة الجامعة الأميركية بتحويل تعويضه المهني الخاص الى حساب خارجي عند تكليفه مهمة تشكيل الحكومة.
وامام هذه المعطيات وغيرها مما لا يتسع لها المقال، طُرحت مجموعة من الأسئلة الأكثر جدّية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: هل هناك اجماع على مستوى اركان السلطة على «التدقيق الجنائي» في مصرف لبنان؟ وهل انّ من يصرّ على هذا القرار لا يدرك العقبات التي تحول دون نتائجه، التي تتحدث عنها النظريات المالية والمحاسبية وتلك المنصوص عنها في الكتب والقوانين المالية والنقدية؟ وهل يريدون للعملية ان تتمّ في مصرف لبنان بسهولة لتنتقل لاحقاً الى وزارات ومؤسسات أخرى، ارتكبوا فيها مباشرة او بالإنابة عنهم الموبقات وعمليات صرف النفوذ، الى حدود لا يمكن إخفاؤها إن وصل موسى التدقيق اليها؟ ولو ارادوا ذلك، فلماذا تجاهل الآليات الأخرى التي يمكن ان تؤدي الى النتيجة التي يعدون فيها اللبنانيين، بدل الإعتراف بأنّهم يديرون دولة فاشلة ومارقة؟
ليس من الصعب ان يوفر اي مرجع مالي او مصرفي الأجوبة عن هذه الأسئلة، ففي متن مجموعة الأسئلة هذه - كما يقول احد المصرفيين الكبارـ «اجوبة واضحة لا تحتمل التشكيك في صدقيتها. ذلك انّ ما يجري اليوم يشكّل فضيحة كبرى في اسواق المال والنقد والمصارف، ولن تقف تردّداته السلبية في الأسواق المالية اللبنانية في المدى المنظور، وستتطور لاحقاً الى مدى لا يمكن احتسابه من اليوم». ويضيف: «ان اصرّت الحكومة المقبلة على السياسة التي اعتمدتها حكومة دياب عند تحديدها حجم الخسائر في مصرف لبنان والقطاع المصرفي، ستتحق الكارثة الحقيقية التي بدأنا ندفع ثمنها تدريجاً».
وان دخل في التفاصيل - يقول المصرفي الكبير: «إنّ ما نوت عليه حكومة دياب لم يخطر على بال احد، فهو ابلغنا رأيه أنّ مصرف لبنان والمصارف اللبنانية خانت الأمانة وسرقت اموال الدولة واللبنانيين، وانّه يخطط لقيام خمسة مصارف جديدة برأسمال كل منها لا ينقص عن 200 مليون دولار على انقاض القطاع المصرفي المفلس كما يعتبر. وهو امر انعكس على اوضاع المصارف التي بدأت بتقليص عدد موظفيها من المديرين والموظفين، في عمليات صرف جماعية ستصل الى حدود انهاء خدمات 28 الف منهم ورميهم في الشارع. هذا عدا عن تجاهل النصائح التي أُسديت اليه بضرورة تعديل ما يحول دون «التدقيق الجنائي» الحقيقي في عدد من مواد قانوني النقد والتسليف والسرية المصرفية. فما تنصّ عليه المادة 151 والمواد من 41 الى 45 من قانون النقد، يمنع حاكم مصرف لبنان من اعطاء المعلومات التي تطالب بها شركة التدقيق الجنائي، وهو امر لا نقاش فيه. كما بات واضحاً، انّ السرية المصرفية ليست ملكاً لحاكم مصرف لبنان ولا الهيئات الملحقة به، بل هي من حق المتعاقدين والأفرقاء المستفيدين من مضمونها، وإن مُسّت هذه السرية يمكن للمتضررين، اشخاصاً أو مؤسسات، ان يطعنوا بقرارات الحاكم والشركة المدققة وكل المعنيين بأي قرار من هذا النوع».
لا يكتفي المصرفي الكبير بهذه الملاحظات، لا بل يقترح ما يمكن القيام به لو أراد المسؤولون تحقيق النتائج الموعودة من التدقيق الجنائي، بالذهاب مباشرة الى التدقيق في حسابات الخزينة ومنها الحساب الرقم 36 لدى مصرف لبنان. فهي عملية معتمدة وناجحة، لا يحول دونها اي قانون يعوق الوصول الى تحديد هوية وادوار ناهبي المال العام، كما الواهبين، سواء كانوا اشخاصاً او مؤسسات رسمية او خاصة. فليس هناك ما يحول دون ملاحقة المتهمين من وزراء وموظفين كبار ونافذين ومؤسسات خاصة، تتعاطى مع المال العام في اي موقع كان، متى ثبت تورطهم في نهب المال العام أو وهبه.
على هذه الخلفيات، لا يرى المصرفي الكبير في كل ما يجري سوى التعمية على الناس بدفن الحقائق والتهرّب من تحمّل المسؤولية. وهو على يقين، ومعه اكثرية اللبنانيين من انّ الحديث عن التدقيق الجنائي كذبة كبيرة، تخفي خلفها مشاريع كبيرة للتخلّص من التهم الموجّهة الى من بيدهم اليوم قرار الحل والربط. فأقصى امانيهم انتقامية وكيدية ونكد سياسي يعزز بقاءهم واستمرارهم في مواقع السلطة ولو على حساب لبنان واللبنانيين.