بقلم : جورج شاهين
ترقّب الاوساط الديبلوماسية ما يمكن ان يحققه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من زيارته الاخيرة للمنطقة، للتثبت من قدرته على عبور حقل الالغام المزروعة على الطريق بين بيروت وبغداد، الذي هو من صنيعة القوى عينها. ولذلك تمّ رصد مواقفه المتكاملة بين العاصمتين. فبعد مناداته بإحياء الدولة في الأولى، تجاهل «السيادة» التي جعلها عنواناً في الثانية. وعليه، ما الذي يقود الى هذه المعادلة؟
لم يكن صعباً على المراجع الديبلوماسية قراءة اللهجة التصاعدية المتناقضة التي عبّر عنها خطاب ماكرون في لبنان والعراق، وإن اختلفت اللغة التي استخدمها في بيروت، عن تلك التي استخدمها في بغداد، رغم وحدة الاهداف وتقاربها. فلا يخفى على احد، أنّ وجوه الشبه في ازمتي البلدين متعدّدة في كثير من أصناف المعاناة اليومية للمواطنين. فعدا عن وجوهها السياسية والحكومية المتشابهة، نتيجة التنوّع في مكوناتهما السياسية والعشائرية والطائفية والمذهبية، فهما يعيشان تحت تأثيرات النزاع العربي - الفارسي والأميركي - الايراني، وما بين العرب والأكراد والاتراك.
كما انّهما يتقاسمان ما تؤدي اليه التدخّلات الأجنبية، لقوى عسكرية مختلفة الهويات والجنسيات. فبلاد ما بين نهري دجلة والفرات، تعيش نقصاً في مياه الشرب في بغداد ومدن الجنوب وشمال شرق البلاد المتصحرة. والارض العائمة فوق امتار قليلة عن مخزون هائل من النفط، تبحث عن «منافذ نووية» لمواجهة أزمة كهربائية لا مثيل لها في تاريخ العراق. وعدا عن ذلك، تنتشر الميليشيات الشيعية المسلحة في مدن العراق، بغطاء شرعي اسبغته الحكومات السابقة في البعض منها، وتعيش أخرى تحت سطوتها، من دون اي غطاء رسمي، وان شاركتها ميليشيات كردية في مناطق مختلفة، بحكم الأمر الواقع.
ومن هذه النافذة بالذات، تنطلق القراءة الموضوعية، للبحث في وجوه الشبه بين الأزمتين وحجم الاستعدادات الفرنسية للدخول في دهاليزهما، بحثاً عن موطئ قدم، يعيد لفرنسا ما افتقدته في المراحل السابقة التي رافقت ظهور «داعش» وأخواتها. فتقدّمت الولايات المتحدة الأميركية بحضورها العسكري في العراق وجزء من شمال وجنوب - غرب سوريا، وحضرت روسيا بكل قواها العسكرية في أراضي «سوريا المفيدة». وكل ذلك على وقع غياب متدرّج لبقية القوى الاقليمية والدولية، التي سحبت قواها العسكرية، وما زالت تحتفظ بمصالح ومواقع نفوذ ضيّقة ومحدودة جداً.
على وقع هذه التطورات بوجوهها المختلفة، توقف الديبلوماسيون امام الخطاب «السيادي» الذي ركّز عليه ماكرون في العراق، في اطلالته الى جانب رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، عندما شدّد على مساندة فرنسا لجهود الكاظمي لـ «تعزيز السيادة العراقية»، وما سمّاه «توفيق أوضاع» كافة القوى المسلحة، في إشارة إلى فصائل شيعية مسلّحة تدعمها إيران. كما بالنسبة الى وقف التدخّلات الخارجية في الشأن العراقي الداخلي على وقع ما سمّاه «خطة الطريق الموقّعة بين البلدين في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية». مع اشارته المباشرة واللافتة الى «أنّ أي تعاون عسكري مع العراق يجب أن يحترم سيادته».
وعليه، ربط الديبلوماسيون بين مفهوم «السيادة» التي ركّز عليها ماكرون في العراق، وتجاوزها «المؤقت» في لبنان. وعلى رغم من انّ الهدف في الحالتين يمسّ الحالة التي ترعاها ايران فيهما، فهو سجّل في بيروت موقفاً متقدّماً على حساب «السيادة» بالمفهوم «الدولتي» للكلمة، مقدّماً رأيه السياسي والديبلوماسي في وجود «حزب الله» وتوجّهاته اللبنانية والعربية على رأيه «السيادي» في الدور والممارسة. كون الحزب قوة سياسية ونيابية وحكومية لبنانية، على رغم من انّه قال علناً في مؤتمره الصحافي، انّه لا يشاطره ولا يؤيّد ممارساته العسكرية في لبنان والخارج على اي أراضي دولة اخرى. وكل ذلك لا يمكن تفسيره سوى النية بتجنّب اي مواجهة مع ايران على الساحة اللبنانية، من دون يراعي ذلك على الساحة العراقية.
وعليه، لم يعد خافياً حجم التناقضات التي عبّر عنها ماكرون في سياسته الخارجية في المنطقة. فما سمح به في بيروت لم يتجنّبه في العراق، وتحديداً عندما رفض جملة اقتراحات تمسّ بمصالح «حزب الله»، من خلال رفضه لما يرفضه من ملفات لبنانية، بدءاً من البحث في ملف «السلاح غير الشرعي» وصولاً الى «الانتخابات النيابية المبكّرة»، التي لا يمكن للحزب دخولها، اياً كان الثمن، وان كانت لا تصيبه نتائجها، اياً كان القانون المعتمد.
ولكنه يدرك في الوقت نفسه، انّها قد تلحق الأذى بحجم تمثيل حلفائه، كما إن لامست نتائجها حجم الأكثرية النيابية التي يحظى بها، سلاحاً سياسياً يعزز قوته العسكرية، ولا بديل منه عندما يضمّه الى حلفه مع رئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر» البرتقالي، والآخرين الذين يمكن ان يدفعوا ثمناً نتيجة اي دعوة الى انتخابات مبكّرة، في ظل الرفض الشعبي لكل من بات موقفه مرتبطاً بالسلطة الفاشلة، التي لم تتمكن من مواجهة اي من الملفات الكبرى للتخفيف من معاناة اللبنانيين.