لم يتعب الفرنسيون بعد من مقاربة الملف الحكومي، وكأنّ المبادرة التي اطلقها الرئيس ايمانويل ماكرون قبل ثلاثة اشهر كانت في الامس. غير عابئين بسلسلة النكسات التي اصابتها، وسقوط بعض ما قالت به. فقد تكثفت الإتصالات الباريسية في الأيام الماضية، سعياً الى تشكيلة حكومية يحملها الرئيس سعد الحريري الى بعبدا عشية مؤتمر باريس. وعليه، ما هي الظروف التي املتها وواكبتها وما هي حظوظها؟
ليس من السهل على اي من المراقبين إحصاء الطعنات التي اصيبت بها المبادرة الفرنسية، ولم يعد يفهم ما بقي منها، بعدما سقط كثير مما قالت به، من محطات تجاوزها اللبنانيون وابتلعوا مراحل عدة منها، وإلاّ كان الاول من كانون الاول الموافق اليوم، موعداً محتملاً للمؤتمر الدولي الذي وعد به الرئيس الفرنسي لمساعدة لبنان في اطلاق سلسلة القرارات والإجراءات التي كان من المفترض الوصول اليها، من اجل المشي فوق خريطة الطريق التي رسمتها عند اعلانها في الأول من ايلول الماضي.
وان نسي البعض او تناسى، ولمن يمتلك ذاكرة «مبخوشة»، يمكن تذكيرهم أنّ المبادرة الفرنسية قالت عند انطلاقها في الأول من ايلول الماضي، ثاني ايام تكليف السفير مصطفى اديب (30 آب 2020) مهمة تشكيل حكومة في غضون اربعة اسابيع، تمهيداً للعبور الى المراحل الاخرى اللاحقة، التي تمّت برمجتها وفق خريطة طريق معقولة ومتدرجة، تنتهي الى اطلاق عجلة المساعدات الدولية وتسييل مليارات عدة من «سيدر 1» والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، كخطوة على طريق الالف ميل نحو بداية التعافي.
ولكن المهلة عبرت، وقبل يومين من مهلة الاسابيع الاربعة، جاء السادس والعشرون من ايلول الماضي، باعتذار اديب عن مهمة تشكيل «حكومة المهمّة» بدلاً من انجازها. وهكذا سقطت اولى المِهَل التي نالت موافقة اركان السلطة، وتجاوز الفرنسيون «الطعنة الأولى»، واعطوا اللبنانيين مهلة مماثلة انتهت بعد شهر ويومين، بتكليف الرئيس سعد الحريري المهمّة عينها (27 تشرين الأول 2020) عشية الذكرى السنوية الأولى لاستقالة حكومته، عقب «ثورة 17 تشرين» (29 تشرين الاول 2019). ولكن الشهر الأول منها، والذي كان مخصصاً للتأليف انتهى أيضاً، من دون ان يشهد النهاية التي قال بها، وما زال اللبنانيون حتى الأمس ينتظرون تنفيذ ذلك الوعد الذي قطعه اركان السلطة، بالتزامهم «النسخة المنقحة» من تلك المبادرة، من دون الإيفاء به.
وعلى انقاض السيناريوهات المنهارة، من اجل عقد مؤتمر دولي لمساعدة لبنان مطلع الشهر الجاري، الذي كان قد حان اوانه لو التزم اللبنانيون «النسخة الاولى» من المبادرة، يبدو واضحاً انّ الاهتمام ما زال محصوراً بالمحطة الاولى التي تحدثت عن تشكيل الحكومة. وبعيداً من كل ما اصابهم من خيبات، كشفت مراجع معنية، انّ الفرنسيين كثفوا في الايام القليلة الماضية اتصالاتهم بمختلف المعنيين بالتأليف، لتأمين التفاهم على «توليفة حكومية» جديدة، حافظت على «التوزيعة الاخيرة» للحقائب، كما تمّ الاتفاق عليها في زيارتي الحريري الثامنة والتاسعة للقصرالجمهوري، وقبل الصدام في العاشرة. كذلك اجرت تبديلاً في بعض الأسماء، فأسقطت بعضها واستبدلتها بأخرى، وجيء بالجديد منها على وقع الفيتوات المتبادلة. وكل ذلك بهدف التوصل الى «نواة تشكيلة» قابلة للبحث في المرحلة المقبلة، لتوجيه رسالة قوية ومدوّية الى مؤتمر باريس.
ووفق بعض الناشطين في الاتصالات الجارية على خط باريس ـ بيروت، فإنّ قراءة فرنسية جديدة قالت بضرورة البتّ بهذه «المرحلة التأسيسية» في الساعات المقبلة، الفاصلة عن «المؤتمر الانساني» الذي دعا اليه الرئيس الفرنسي غدًا الاربعاء بالوسائل الالكترونية. فهو وجّه الدعوة الى مجموعة من الدول المانحة الغربية والعربية، وممثلين عن هيئات اممية ودولية واقليمية من اجل «نجدة مؤقتة» للبنان، وتوفير ما يلزم لإعادة اعمار وبناء الضروري مما تهدّم، وتأمين المأوى للمشرّدين، وتسهيل انطلاق السنة الدراسية، وتوفير الحد الأدنى من الخدمات الطبية والاستشفائية ومواجهة جائحة «كورونا» التي تطورت وإنتشرت بقوة بعد الإنفجار الكبير.
فالمؤتمر ـ وبحسب معلومات المطلعين القلائل انفسهم ـ لن يوفّر اكثر مما يتراوح بين 225 و300 مليون دولار مساعدات عاجلة في قطاعات الصحة والتربية والغذاء وسياسة الإيواء. وان حصل ما ليس في الحسبان، قد تكون المبالغ المجمعة اقل بكثير، فالمسؤولون اللبنانيون مدّعو القدرة على التأليف، وممن تعهدوا الخطوات الحكومية المطلوبة على وجه السرعة، لم يقدّموا مثالاً واحداً يمكن ان يوفر مزيداً من الدعم، وربما كانت الأرقام المتوقعة لحجم الدعم كبيرة قياساً على حجم التردّد الدولي إزاء تصرفات اللبنانيين المقيتة.
وعليه، فإنّ على اللبنانيين ان يتأكّدوا انّ مؤتمر الغد ليس لـ»النجدة الكبرى» التي كانت خريطة الطريق الفرنسية وعدت بها في نسختها الأولى، قبل ان تصاب بالندوب الكبرى، وقُدّر مردودها يومها بما بين 5 و7 مليارات من الدولارات. وقد كان ذلك ممكناً لو تشكّلت الحكومة، وانطلقت ورشة الإصلاح في قطاعات الطاقة والكهرباء والإدارة. وزاد في الطين بلة، انّ مجلس النواب لم ينجز شيئاً مما وعد به، فلم يقرّ أياً من القوانين الاصلاحية، كقانون «الكابيتال كونترول»، ولم يسهّل إطلاق «التدقيق الجنائي». ولم يوحّد لبنان ارقام الخسائر في مصرف لبنان والقطاع المصرفي، كخطوة لا بدّ منها لإحياء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
ولكن، وللاسف الشديد ـ كما يقول المسؤولون الفرنسيون ـ فإنّ شيئاً من هذا لم يحصل. وبدلاً من ان ينجزوا شيئاً مما تعهّدوا به، اعادو العملية السياسية الى نقطة الصفر، وكأنّ لا جديد يستدعي العجلة. فلا حجم انفجار المرفأ هزّهم، ولا ما بلغته الأزمة الإنسانية والطبية والنقدية والمعيشية شكّلت دافعاً لتجاوز اطماعهم في تقاسم المواقع، وهم يعتقدون انّهم يملكون ترف الوقت للنقاش في جنس ملائكة الوزراء والحقائب معاً.
في اي حال، وإنتظاراً لما ستحمله الساعات المقبلة من تطورات، فإنّ الآمال معلّقة على نتائج الاتصالات التي تكثفت ودخلت في ادق التفاصيل التي قد يُبنى عليها شيء جديد، وفي حال العكس فإنّ الامور قد تعلق في موازاة اقتراح، ربما بتعديل موعد مؤتمر الغد وتأجيله لأيام، وهو ما ستحسمه المراجع الفرنسية، التي تضع اللمسات الأخيرة على المؤتمر وحجم المشاركة فيه في الساعات المقبلة.