بقلم : جورج شاهين
على رغم من تمديد المِهَل امام المبادرة الفرنسية، فقد اتجهت الأنظار الى سلسلة من الاتصالات قادت اليها ديبلوماسيتها، دعماً لمبادرتها، على خلفية انّها لم تكن محض فرنسية، وهو ما دفع الى انتظار نتائج الوساطات الدولية التي تشعبت في اكثر من اتجاه. وعلى وقع تعدّد المقترحات، بقي الفشل الجامع الوحيد في ما بينها، مصحوباً بمجموعة من النصائح التي لم تغيّر شيئاً في تصرفات اللبنانيين. فكيف ولماذا؟
لم تعترف باريس بعد بعجزها عن إتمام المرحلة الاولى من خريطة الطريق التي اعتمدتها للحلّ في لبنان، ولكن حركتها الديبلوماسية تدلّ بوضوح الى حجم العراقيل التي حالت دون اقلاعها. فرهان الرئيس الفرنسي، ومعه إدارته السياسية والديبلوماسية، على تعهدات اللبنانيين تبخرّت سريعاً، لمجرد انّ بعضهم تراجع عن وعوده، ولا سيما منها تلك المتصلة بتشكيل «حكومة مهمة» وما ستليها من خطوات جديدة تحدّ من طموحاتهم في السيطرة على مقدّرات البلاد والعباد.
فعلى الرغم من النقاش الحامي حول شكل ودور هذه الحكومة، التي ارتبط البحث فيها بمعطيات «اللحظة الصعبة» التي يمرّ بها لبنان، وخصوصاً بعد انفجار المرفأ، فقد سُجّلت مفارقات عدّة لا يستوعبها عقل ديبلوماسي غربي، اراد ان يقدّم خدمة للبنانيين من دون ارادتهم على الأقل، في ما تفرضه الخطوات المطلوبة. فالجميع يدرك في وضوح انّ الطرح الحكومي الجديد في شأن تشكيل حكومة، من النوع المطروح الذي لم يألفه اللبنانيون قبلاً، لم يكن اكتشافاً فذاً أو لا سابق له في تاريخ الدول التي عاشت أزمات مماثلة. إنما جاء في ظرف غير معهود لم تعشه البلاد سابقاً.
ولمزيد من القراءة الغربية لما هو سائد، فقد لفتت مصادر ديبلوماسية غربية مطلعة الى انّها لم تستوعب بعد ردّات فعل اللبنانيين تجاه ما هو مطروح حكومياً، ولا سيما لجهة التمسّك بالقشور وتجاهل كثير مما هو في الجوهر. فالوضع الذي يعيشه لبنان على اكثر من مستوى غير مسبوق ولم يعشه اكبر المعمّرين في لبنان. وعلى رغم معرفة الجميع بالمخاطر المحيطة بمصير الدولة ومؤسساتها، فقد ارتأى البعض استغلال اللحظة لتسجيل مكاسب غير دستورية وغير منطقية، سواء لتحصين موقعه على الساحة الداخلية، او لجهة تكريس أمر واقع لا يتحمّله البلد المنكوب. وما زاد في الطين بلّة، انّ مجمل النصائح التي أُسديت وجاءت بالرئيس الفرنسي الى بيروت مرتين، لم توقظ بعضاً منهم بعد، الى حجم الاضرار الجسيمة المتوقعة ان سقطت المبادرة بمختلف مراحلها وامتيازاتها.
ولن تقف الامور عند هذا الحدّ، فعملية تأليف الحكومة لم تكن هدفاً بحدّ ذاتها، ذلك انّ خريطة الطريق التي رسمها ماكرون ومعه مجموعة الدول والقوى الاقليمية والدولية الداعمة، قالت بخريطة طريق طويلة لا بدّ من السير بها اياً كانت الأثمان الظرفية والآنية المطلوبة على المدى القصير. فمعاناة اللبنانيين لا تقف عند جديد النكبة التي احدثها انفجار المرفأ في اسوأ الظروف التي تعيشها البلاد، بل انّه جاء في اخطر مرحلة من المراحل، وخصوصاً بالتزامن مع الأزمة المالية والمصرفية التي لم يعرفها لبنان بفقدان العملات الصعبة وحجز اموال اللبنانيين في المصارف، على وقع الخلافات القائمة حول توحيد ارقام الخسائر التي لحقت بمصرف لبنان، خصوصاً، والقطاع المصرفي عموماً، وبفوارق كبيرة جداً، تمهيداً لإطلاق الحوار مع صندوق النقد الدولي. هذا عدا عن تدهور سعر صرف الليرة بنحو لم يكن يتوقعه أحد إلاّ لدى قليل من العاملين في القطاع المالي وعلى مستويات مختلفة محدودة، ولم تنفع تحذيراتهم في تغيير أداء اهل الحكم والحكومة.
ويضيف الديبلوماسيون، الذين رفعوا تحذيراتهم على اكثر من مستوى وفي اكثر من قناة رسمية وحزبية وسياسية، انّ استمرار تعاطي اللبنانيين مع عملية تشكيل «حكومة المهمة» بالطريقة المذهبية الجارية، ستودي بالبلاد الى حيث حذّر الجميع منه. فإلى جانب المخاطر المتأتية من احتمال وقوع الفتنة المذهبية على وقع تبادل الاتهامات بين «الثنائي الشيعي» و»الرباعي السنّي»، فقد تناسى الاطراف المتنازعون على حقيبة وزارة المال، ان كانت لسنّي او لشيعي، انّ الدولة اللبنانية اقتربت من مرحلة الانحلال والشلل، وهي لن تكون قادرة على القيام بالحدّ الأدنى من التزاماتها تجاه شعبها في وقت قصير.
فحبل الرهان على قدرة مصرف لبنان في ادارة بعض القطاعات الحيوية بالإنابة عن جميع السلطات التنفيذية والتشريعية بات قصيراً جداً، وفي نهاية السنة لن يكون قادراً على مواجهة الاستحقاقات التي تعهّد بها، لجهة ضمان ضبط اسعار السلع الاستهلاكية الاساسية، وانّ بوادر ازمات الطحين والمحروقات والأدوية مؤشر خطير الى ما هو مُنتظر من حالات انهيار مريعة. والاخطر، انّ ليس هناك من القادة اللبنانيين المتحكّمين ببعض الخطوات، من يبالي انّ ترددهم في اتخاذها حكومياً على الاقل، سيحول دون فتح باب واحد من ابواب الفرج الذي سيقود الى حال افضل.
ويستطرد الديبلوماسيون الى القول، انّ فشل اللبنانيين في توليد حكومتهم سينهي سلفاً مجموعة من التعهدات والالتزامات الدولية التي رافقتها، بما فيها تلك التي اعطت طاقم الحكم بعضاً من العفو عن مخالفاته وجرائمه السابقة، والتغاضي عن الفشل في إدارة شؤون الدولة على اكثر من مستوى، واعفائهم من مسلسل العقوبات التي يستحقونها دون ان يرفّ لهم جفن.
وفي الخلاصة، ومنعاً للغرق في التفاصيل، فمعظم هذه التحذيرات التي وصلت من باريس أولاً ومن موسكو وواشنطن والامم المتحدة تالياً، لم تغيّر من تصلّب المتمسكين بمصير حقيبة وزارة المال وآلية تشكيل الحكومة، كما لفت اليه موقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون امس. وهو ما يدفع الى أمرين: إما انهيار شامل لمشروع التأليف وسقوط المبادرة الفرنسية نهائياً، او انكشاف التغطية الدولية التي يتمتع بها طرفا النزاع، فيما الإجماع قائم على انّ مصير البلاد عاد رهناً بالخوف من الفتنة السنّية - الشيعية التي سيضيع معها لبنان.