بقلم : جورج شاهين
يصرّ ديبلوماسي غربي يراقب عن كثب يوميات اللبنانيين على القول، إنّ الغاء زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الثالثة الى بيروت، قد تكون عكست شيئاً من الكآبة على قيادة الكتيبة الفرنسية العاملة في اطار «اليونيفيل» وعناصرها، أكثر بكثير من تأثر الساعين الى تشكيل الحكومة ومعالجة ترددات الأزمات التي تعصف بلبنان. فبعض المؤشرات يقود الى هذه المعادلة «الساخرة». لماذا وكيف؟
لم يكن الديبلوماسي يمزح مع محدثه من اصدقائه اللبنانيين، فهو خائف على مستقبل لبنان واللبنانيين، ويخشى ما يمكن ان يورثه العام 2020 الى خلفه من مآس وأزمات، ما زالت تتناسل وتتوالد بنحو خطير، ما يعزز كل المخاوف من تطورات سلبية، ليس من السهل تطويقها ومعالجتها. فمجمل الأزمات تتفاعل، ولم يتمكن اللبنانيون بقدراتهم المتواضعة وبالآليات الفاشلة المعتمدة، من حلّ اي منها، وإن نجحت بعض المبادرات في التخفيف من انعكاساتها السلبية، فإنّ بعضاً منها اقفل على زغل، ولا يدري احد متى ستنفجر من جديد.
يدرك الضيف اللبناني ما قصده الديبلوماسي، ويدرك أنّه يعرف أكثر منه بكثير، فله صولات وجولات في مراكز القرار، ويطّلع يومياً على ما يمكن تسميته «التقارير الحمراء» التي تُصدرها المؤسسات الأممية ومراكز الاستشارات المالية والتصنيف الدولية عن الوضع في لبنان، التي أوقفت تقاريرها الدورية في الفترة الأخيرة، لاضطرارها الى اخضاعها لتعديلات اسبوعية. فالمسؤولون اللبنانيون مختلفون حول كل المؤشرات المالية والإقتصادية والنقدية، ولا يعرف معظمهم، لا حجم الخسائر في القطاع المصرفي ولا ما في موجودات المصرف المركزي وما يجري فيه. كما انّهم يجهلون تمام الجهل ما أقدمت عليه المصارف من هندسات مالية خاصة بهم، ذهبت بموجبها مدخراتهم الى الخارج او الى البيوت، فتجاوزت ما انتهت اليه هندسات مصرف لبنان. فهم يتلاعبون بزبائنهم الصغار ويخشون آخرين ما زالوا حتى الأمس القريب يحوزون على دولاراتهم «الطازجة» في الشكل الذي يرغبون به.
والى ذلك، يعتقد الديبلوماسي، انّ برامج الدعم الخارجية التي تقودها بعض الأنظمة والحكومات لمصلحة فئات لبنانية، ما زالت قائمة على ما كانت عليه. وان خضعت أخيراً الى عملية تقليص اقتربت من نسبة الـ 30 %، فإنّ بعض المتلقين لم يتأثر بذلك. فهم كانوا على استعداد للتضحية بـ 50 % منها. طالما انّها تصل «فريش ماني» قياساً على حجم الكلفة المقدّرة للحياة في لبنان. فهم يدركون ببرامجهم المحاسبية، انّها لا تزال مقبولة في ظلّ الأزمة الخانقة التي انهكت العملة الوطنية بنسبة تراوح بين 73 و78 %. مع الخشية القائمة من انّها ما زالت في طريقها الى مزيد من الانهيارات، طالما انّ السياسات المعتمدة ما زالت تسمح بإنفاق كثير من المال العام، وصولاً الى الاحتياطي الالزامي، بعد فقدان مدخرات المودعين. فطبع مزيد من الاطنان من العملة وارد في اي لحظة وبنسخ جديدة، لتطمئن من يريدها الى انّ ما يعتقده مفقوداً ما زال موجوداً، ولو بقيمة هي الأدنى في تاريخها.
ومن هذه القراءة السريعة لبعض المؤشرات المالية والاقتصادية، انطلق الديبلوماسي المحنك الى قراءته السياسية لنتائج الغاء زيارة الرئيس ماكرون بعد اصابته بكورونا. فطرح على محدثه سؤالاً افتراضياً، ما الذي سيتغيّر لو جاء صاحب المبادرة اليتيمة الى لبنان للمرة الثالثة؟ وما الذي تأمله، ومعه كل الدعم الذي حظي به، من الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان ورضا أميركي ملحوظ ودعم روسي لا بأس به ولا مبالاة عربية غير مسبوقة؟ ولم ينسَ الرهان الضمني على ما وفّره الدعم الإنساني الأممي من مقومات «الصمود المؤقت»، وان بقي محصوراً بالجوانب الانسانية والاجتماعية والطبية لتداعيات «نكبة 4 آب» وما تواجهه العائلات المشرّدة، التي اضافت على ازمة النازحين هموماً إضافية لم تعشها سوى تلك الدول التي كانت حافزاً لمجموعة من الأفلام الوثائقية التي تتحدث عن نكباتها، نتيجة سياسات أنظمة وديكتاتوريات أو منظمات ارهابية او هزات ارضية وعوامل طبيعية.
عند هذه الحدود انتقل الديبلوماسي ومضيفه الى قراءة المواقف السياسية ومدى تأثرها بإلغاء الزيارة، فأجمعا على القول، إنّه لربما كانت الزيارة لو حصلت قد تسببت بحال من الإحباط الإضافي لدى اللبنانيين، الذين ينتظرون اولى الخطوات التي قالت بها مبادرته بلا نتيجة. وان كان ابرزها تأليف حكومة من الإختصاصيين، في ظلّ سعي البعض الى حكومة سياسية. فالتقيا حول قراءة مخاطر الاستمرار في ضرب المبادرة الفرنسية وعناوينها. فمجرد الحديث عن حكومة تسمّيها الأحزاب التي تحظى بالأكثرية البرلمانية، مصدر الثقة المنتظرة، لا يوحي بإمكان تشكيلها. فالرئيس سعد الحريري، الذي تعهّد بتشكيل الحكومة التي سعى اليها سلفه السفير مصطفى أديب، بات على قناعة انّ من الصعب أن تولد في ظلّ الموازين الحالية. والدليل، ما شهدته 12 جولة من المفاوضات، وما سُجّل عن يمينها ويسارها من مواقف لا تطمئن، وتحديداً عندما يُقال انّ الحكومة الجديدة لا علاقة لها بما ادّى اليه انفجار المرفأ وتردّداته. والأخطر، بعدما انبرى احدهم ليضيف، ان لا علاقة لها بالأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة، ما يعني صراحة نعي كل المحاولات الجارية من اجل استكمال التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان والوزارات والمؤسسات العامة وبرامج الاصلاح وغيرها، من تلك التي تؤدي الى ضبط المعابر ووقف التهريب وإعادة تكوين محتويات الخزينة العامة من اجل مواجهة المصاعب وتعزيز برامج وسياسات الدعم المطروحة، والتي بُنيت على مزيد من القروض الدولية التي تزيد من نسبة الدين العام وانهاك الخزينة في ظلّ شح مواردها.
وان صحّت هذه القراءة، ما الذي سيتبقى من المبادرة الفرنسية؟ - سأل الديبلوماسي مضيفه اللبناني ـ واضاف: «قد يكون لخير الرئيس ماكرون ان يصاب بعوارض الكورونا لإلغاء الزيارة، على أمل ان تكون عوارضها هامشية وعابرة، ومعه مجموعة المسؤولين الاوروبيين الذين دخلوا مرحلة الحَجر، في انتظار معرفة مصدر الإصابة، ان كانت فرنسية او برتغالية او بلجيكية او اسبانية أو اي من الاتحاد الأوروبي».
لم يكن سهلاً الوصول الى نتيجة مثمرة للنقاش بين الديبلوماسي وضيفه حول ما يجري في لبنان، فكل المؤشرات تدل الى انّ من بيدهم الحل والربط لم يتفهموا بعد حجم الكارثة. ولا يريدون تقديم اي حل شامل يستدعي التضحية بمصالحهم الفردية والفئوية والآنية، وان كان البعض منهم قادراً على «الصمود والتصدّي». فأكثرية اللبنانيين عبّرت عن عجزها في خوض مثل هذه المغامرة.
وقبل ان ينتهي اللقاء، غمز الديبلوماسي امام ضيفه ساخراً مما يمكن أن يكون لإلغاء زيارة ماكرون من انعكاسات، فاعتبرها سلبية على قيادة «اليونيفيل» والكتيبة الفرنسية العاملة فيها التي اصيبت بالاكتئاب. فقد كانوا يأملون في تمضية ليلة ما قبل الميلاد مع رئيسهم. أما المسؤولون اللبنانيون، فقد نالوا فرصة إضافية لممارسة مزيد من المناكفات، والى أجل غير مسمى!.