حتى السابعة من مساء الاربعاء في 20 الجاري كان الإصبع ما زال على الزناد، وما ان وصل الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب الى منتجعه في فلوريدا، ودخل الرئيس جو بايدن الى البيت الابيض، حتى إطمأنت القلوب واستراحت أجهزة الرصد وفُكّت حالة الاستنفار غير المعلن عنها. وعليه، اي قطوع أمني عبره لبنان ومعه المنطقة. متى وكيف ولماذا؟
لم تنشأ هذه المعادلة بمراحلها وجوانبها المختلفة من عدم، وهي ليست مجرد رواية مختلقة بمقدار ما هي حصيلة تجربة عاشتها الأجهزة الأمنية اللبنانية المختصة، التي كانت ترصد لفترة من الزمن جملة مخاوف من عمل أمني ما، فرضته اجواء التشنج السائدة في المنطقة والعالم، وما يمكن ان يؤدي اليه أي خطأ يمكن ان يرتكبه احد عن قصد او غير قصد.
ليس في السيناريوهات الأمنية والمخابراتية قراءة للتحركات العسكرية والحشود المتبادلة فحسب، فهي بالإضافة الى رصدها، كانت تستند الى معطيات سياسية وديبلوماسية متشنجة، أوجدت جواً من التوتر ساد لبنان والمنطقة لفترة زمنية بقيت طي الكتمان، منذ الانتخابات الرئاسية الاميركية. وزادت المخاوف في ما بعدها، نظراً الى ما انتهت اليه من ترددات، نتيجة عدم اعتراف ترامب بالنتائج التي جاءت بندّه الى البيت الابيض.
قالت التقارير الديبلوماسية والاستخبارية، انّ العناد الذي اظهره ترامب في المواجهة غير المتكافئة مع بايدن، وتهديده بعدم ترك المكتب البيضاوي زادا من حجم القلق. فهو لم يعترف بالنتائج النهائية، على الرغم من عبورها مختلف المراحل الدستورية، وصولاً الى المحكمة الدستورية العليا. وعليه، فقد توسعت رقعة المخاوف، بعدما تركت مواقفه مجموعة من البصمات في الداخل الاميركي على مستوى الشقاق بين الاميركيين، وفرزهم على الطريقة العشائرية، انعكست على الخارج ايضاً مزيداً من التوتر في اكثر من بقعة ساخنة في العالم.
وعلى الرغم من التوقعات السلبية، فقد فتح موقف «الانتليجنسيا» العسكرية التي رفضت سلسلة اقتراحات ترامب، نافذة على التخفيف من التوتر المحتمل من دون ان تنزعه، وقد حاول ان يمارس مزيداً من الضغوط العسكرية في الخارج، فواجهه وزير الدفاع الاميركي بالإستقالة، وترك كثر من مسؤولي مجلس الامن القومي والبنتاغون مواقعهم، رفضاً لما اقترحه. وان فُتح هذا الملف، فقد انسحب اخيراً على رفض المعنيين بأمن البيت الابيض، ان يُقام له عرض عسكري ضخم يضم مئات الجنود الاميركيين، كان يريده لتوديعه عند خروجه منه الى منتجعه في فلوريدا. ولذلك اقتصرت المراسم على الحرس الرئاسي وموسيقاه وإحدى وعشرين طلقة مدفعية وحشد صغير من الموظفين.
لقد كان البعض يعتقد عن صدق، انّ في نية ترامب فرض امر واقع جديد على خلفه بايدن، كأن يشن حرباً في مكان ما في العالم. فلم يتردّد المحيطون به في رفضهم لما هو غير مألوف من إجراءات وقرارات يمكن ان يتخذها رئيس لدولة عظمى بحجم بلاده، لا تزال امامه ايام عدة في السلطة. ولكن، ورغم بعض المواقف التي كانت تدفع الى الاطمئنان، فقد بقيت تساور الاجهزة الإستخبارية العالمية جملة مخاوف، وخصوصاً إن ترافقت تهديدات ترامب مع اي خطأ يمكن ان يرتكبه الطرف الآخر في اي نقطة متوترة في العالم قرب الصين او كوريا الشمالية او ايران، وهو ما تبلّغته اجهزة امنية لبنانية عندما طرحت مخاوفها على الأجهزة الصديقة، سواء كانت عربية او غربية، فلم يتوافر لدى اي منها تقدير موحّد تجاه ما هو محتمل من أحداث. فقد كان العالم منقسماً في تقديراته لما يمكن ان يشهده، وصولاً الى إمكان استخدام حقيبته النووية، رغم حجم العوائق التي تحول دون هذا القرار الجهنمي.
وفي تفاصيل هذه المخاوف، فقد كانت هذه التقارير تحتسب امكان ان تصطدم التحركات العسكرية الاميركية بأي طرف آخر. فعلى وقع التهديدات الترامبية كانت هناك عمليات مشبوهة استُخدمت فيها الغام بحرية متعددة الاهداف، طاولت بواخر وناقلات نفط من جنسيات مختلفة في الخليج العربي. ولمّا وجّه ترامب بانتقال حاملة الطائرات «نيمتس» الى المنطقة، وزرع من حولها حاملة لطوربيدات وصواريخ «توما هوك» وسفناً حربية داعمة في مواجهة السواحل الإيرانية، ارتفعت نسبة القلق مجدداً، وزادت منها المناورات الإيرانية في جوارها. وكل ذلك كان يعزز المخاوف من ضربة عسكرية قد يُشعلها اي خطأ يمكن ان يرتكبه طرف ثالث، فيُشعل فتيل المواجهة.
على هذه الخلفيات، تابعت المراجع الامنية اللبنانية كل هذه التطورات الخارجية بدقة، ووجّهت في الوقت عينه، وبوسائل متعددة، جملة من النصائح مصحوبة بمجموعة من التحذيرات من امكان ان يرتكب احدهم من «حزب الله» أو أي فصيل آخر غير ملتزم، عملية ما، انطلاقاً من جنوب لبنان أو في أي منطقة أخرى يمكن ان تُوجّه اصابع الاتهام من خلالها للبنان، منعاً من اعطاء اسرائيل أي حجة يمكن ان تستخدمها في ردّ قد يحظى بتغطية دولية إن كان له ما يبرّره. وكل ذلك جرى من دون ان يهمل لبنان التوجّه الى مجلس الامن الدولي، مقدّما شكوى إضافية ضدّ اسرائيل من اجل إدانة خروقاتها البحرية والجوية، استباقاً لأي عملية كانت محتملة في لحظة من اللحظات.
على هذه الخلفيات بُني كثيراً من السيناريوهات السلبية في أكثر من لحظة ومحطة. فقد كانت المخاوف جدّية رغم كل التبريرات ورسائل الإطمئنان التي تلقّاها لبنان. فاستنئاف العمليات العسكرية الاسرائيلية تجاه الفصائل السورية والعراقية الموالية لإيران والجيش السوري، أثارت المخاوف ولو بنسبة اقل. فقد كانت المعادلات التي تحدث عنها «حزب الله» مؤشراً يدفع الى التقليل منها. فقد سبق للحزب، وبعد ان توقف عن الردّ على اي عملية تستهدف مصالح ايرانية مباشرة، وترك الامر للقيادة الإيرانية بعد عملية «عين الاسد» رداً على عملية اغتيال اللواء قاسم سليماني، فقد احيت عملية اغتيال الخبير النووي محسن فخري زادة المخاوف مجدداً. ولكن رسائل الاطمئنان برّدت الجو مجدداً، لتبقى المخاوف محصورة من انّ اي ردّ للحزب من لبنان، إن استهدفت اسرائيل شخصيات قيادية له في سوريا، وهو امر لم يحصل الى حين مغادرة ترامب البيت الابيض.
عند هذه المخاوف عبرت تلك المرحلة الصعبة على لبنان، الى ان انتقلت السلطة بسلاسة في البيت الأبيض، وبردت التوقعات وهانت المصاعب المحتملة، وباتت في مرحلة مؤجّلة من الآن. ولكن الى متى وكيف، لا يمكن تقدير ذلك، فكل السيناريوهات تتحدث عن استمرار اجواء التوتر في سوريا، الامر الذي يفرض البحث في طريقة تجنيب لبنان تردّداتها السلبية المتوقعة.