ليس سهلاً تجاوز الصدمة التي احدثها اعتذار السفير مصطفى اديب عن تشكيل «حكومة المهمّة»، فكل الأجواء كانت توحي بولادتها قبل سقوطها بالضربة القاضية. وما زاد في الطين بلّة، ما وجّهه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من اتهامات عرّت اللبنانيين من دون اسقاطهم. وعلى رغم من ذلك، اصرّ اللبنانيون على التمسّك بمبادرته بعد تعديلات لا بدّ منها. وعليه بدأ التصنيف بين ما هو ثابت فيها وما يمكن تعديله؟
خلافاً للأجواء التي رافقت الحملة الشعواء التي قادها الجيش الالكتروني لـ«حزب الله» وحلفائه ضدّ ماكرون بعد مؤتمره الصحافي مساء الاحد الماضي، تحت شعار «ماكرون إلزم حدّك»، جاء خطاب الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله هادئاً وملتزماً الى ابعد الحدود، بتشريح ما جاء على لسان الرئيس الفرنسي من اتهامات طاولت الحزب وحلفاءه والمحور الذي يقوده في لبنان والمنطقة. قبل ان يختم مطالعته، بكل ابعادها السياسية والحزبية والطائفية والمذهبية، بإعلان تمسّكه بالمبادرة، شرط اعادة النظر فيها وباللغة التي اعتُمدت، من دون المسّ بخريطة الطريق التي رسمتها.
وعليه، رأت مصادر ديبلوماسية غربية ولبنانية في مطالعة نصرالله، نهجاً لم يكن متوقعاً. فإلى اعترافه واعادة تبنّي خريطة الطريق التي قالت بتشكيل الحكومة العتيدة والآليات التي اعتمدتها في شأن المحطات اللاحقة الاقتصادية والنقدية والاصلاحية، أكّد انّها ما زالت صالحة للخروج من المأزق الذي دخلته البلاد، ولم يعد سهلاً التفاهم على خطة بديلة يمكن اللجوء اليها ولو بنحو متدرج قصُر مداها او طال.
وأضافت هذه المصادر، في تشريحها للخطاب، انّ السيد نصرالله، وإن نجح في الدفاع عن حلفائه، ساعياً الى تبرئة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري مما طاولهما من اتهامات ماكرونية، فإنّه تبنّى بشكل من الأشكال بعضاً مما طاول الحزب من اتهامات، طاولت ادواره المتعددة والمتناقضة في الداخل والخارج والاقليم خصوصاً، مبرّراً بعض المواقف المرتبطة بها، بما قدّمه من قراءة متناقضة لما قاله ماكرون.
وهو امر كان واضحاً، عندما اشار الى تصلّبه في شأن احتفاظ الشيعة بحقيبة وزارة المال، وبحق تسمية جميع الوزراء الشيعة، ليس من اجل رواتبهم او من اجل مدّ اليد الى المال العام، انما لحماية «ظهر المقاومة» من قرارات تشبه تلك التي اتُخذت في جلسة مجلس الوزراء في 5 ايار 2008 على يد حكومة تشبه تلك التي كانت تُشكّل، كما قال نصرالله، والتي قادت الى احداث السابع منه، عند اجتياح «القمصان السود» لأحياء بيروت.
كما أنّه، وان رفض نصرالله توصيف ماكرون لدور «حزب الله» كميليشيا في سوريا، فقد جدّد تقديم العرض عينه للدفاع عن دوره، مبيّناً الفوارق الكبيرة بين ما انجزه في مواجهة «الارهاب التكفيري»، واضعاً نفسه كحليف في الموقع الذي كانت فيه فرنسا ومعها دول الحلف الدولي. وهو ما يتناقض مع التوصيف الفرنسي لدور الحزب، الذي يعتبره «ميليشيا» في سوريا وجيشاً للدفاع وحزباً سياسياً في لبنان يمارس فائض القوة.
على كل حال، وبعيداً من القراءات المتعددة في شأن المبادرة الفرنسية، فقد تمسّك الجميع بها، وجاء موقف نصرالله مكمّلاً لمواقف آخرين، وفي مقدّمهم كل من رئيس الجمهورية والرئيس سعد الحريري وحركة «امل»، وهو ما كشف الحاجة الى تغيير يمكن ان يطرأ على المبادرة في شكلها ومضمونها، بعد الخلل الذي اصاب توقيتها. وهو ما فتح باب النقاش حول ما يمكن ان يبقى منها، وما يمكن اعادة النظر فيه. وهو ما قرأته المصادر على الشكل الآتي:
- ليس من السهل تغيير التوصيف الذي حظيت به «حكومة المهمّة» ولا المعايير التي جاءت بالسفير اديب الى موقعه، ولا بصفات الوزراء كاختصاصيين ومحايدين، قادرين على التواصل من دون عِقَد مع المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي والدول والمؤسسات المانحة، بعيداً من الاجواء الحزبية الضيّقة للوزراء، والفرز الموجود على الساحة اللبنانية، بغية استعادة الثقة بوجهيها الداخلي والخارجي وفك الحصار المالي المضروب على السلطة التي كانت قائمة في لبنان وليس على الشعب اللبناني.
- وما يمكن تعديله، يمكن ان يبدأ بترجمة التوجّه الفرنسي الجديد الذي اعطى اللبنانيين مهلة اسابيع قليلة لإعادة النظر في آليات التعاطي مع الاستحقاق الداخلي، بدءاً بالتفاهم على تسمية رئيس جديد يُكلّف بتشكيل الحكومة العتيدة وتطبيق بعض الخطوات الاصلاحية التي يمكن اتخاذها في اي وقت، ان كانت السلطة السياسية مستعدة لها فلا تنتظر مهلاً اخرى، كما بالنسبة الى البت بقانون «الكابيتال كونترول» الذي غاب عن جدول أعمال الجلسة التشريعية امس واليوم، قبل ان تعاود مساعي توحيد الخسائر في مصرف لبنان والقطاع المصرفي، لاستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. ذلك انّ القيام بها في هذه المرحلة، يؤدي حتماً الى اثبات جدارة اهل الحكم في ادارة مرحلة الانقاذ، وبوجود النية بالتغيير والاصلاح.
وقبل كل ذلك، يبدو واضحاً أنّ تغيير الإداء في التعاطي مع المبادرة الفرنسية بـ»نسختها الجديدة» يجب ان ينطلق من لبنان لتستجيب له فرنسا. فالازمة تعصف بحكومة لبنان ومؤسساته، وليس بالحكومة والادارة الفرنسيتين. والشعب اللبناني يئن وليس الشعب الفرنسي، وعاصمة لبنان مدمّرة وليست العاصمة الفرنسية من تعيش اصعب ايامها.
فإن نجح اللبنانيون في التقدّم اي خطوة، سيعني ذلك انّهم قادرون على استدراج المجتمع الدولي مرة اخرى لمساعدتهم، وإلّا سنكون في مرحلة بدأت تباشيرها من اليوم تُترجم، بإطلاق برنامج الاعمار القائم حالياً من خارج مؤسسات الدولة الرسمية. فلولا اعلان حال الطوارئ في العاصمة المدمّرة، وتكليف الجيش المهمات الواسعة، لكانت العملية الإغاثية الجارية في المناطق المنكوبة والمتضررة وكأنّها تجري في منطقة خارج سلطة الدولة ومؤسساتها.
وقد باتت بإدارة اممية وعربية، قبل ان تنتشر وحدات من القوات الدولية المعززة في بيروت لدعم الجيش في بعض المهمات الأساسية، مع ما تحمله هذه الخطوة من امكان الوصول الى قرارات تنفيذية، تضع هذه القوات في المطار والمرفأ، توطئة لمراقبة مدى التزام لبنان بالقرارات الدولية، لمنع جهات غير شرعية استخدام مرافئه في اكثر من مجال.