بقلم : جورج شاهين
رَفعت سلسلة التسويات التي أجريت في الساعات الأخيرة، تسهيلاً للولادة الحكومية، نسبة القلق تجاه ردّ فِعل مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان والمؤسسات المانحة، خصوصاً بعدما تبيّن انّ القديم باقٍ على قدمه في الحقائب السيادية وتلك الخدماتية، وإذا حَلّ المستشارون مكان الوزراء الأصيلين فستكون الصدمة أكبر. ومع سقوط مشروع التدقيق الجنائي طُرح السؤال: هل بقي شيء من المبادرة الفرنسية؟ وعليه، ما هو المتوقع؟
إنسحب الصمت المُعتمد في قصر بعبدا و»بيت الوسط» والمقار الرسمية الاخرى إزاء ما تم إنجازه على مستوى تشكيل الحكومة العتيدة على بقية الجوانب المتداوَل بها في الاوساط السياسية والحزبية والاعلامية. واذا كان ذلك مُبرّراً لحماية التشكيلة وتوفير الولادة الطبيعية لها، فإنه من غير المنطقي ألّا تتعاطى بيانات التوضيح والنفي مع سقوط معظم البنود التي تحدثت عنها المبادرة الفرنسية واحدة بعد الأخرى، وهو ما يُلقي بكثير من الظلال على صُدقية ما تضمنته بيانات النفي حتى الايام الاخيرة الماضية.
كانت المكاتب الاعلامية التابعة للمراجع المعنية بالتأليف ترصد كثيراً ممّا نُشِر في وسائل الاعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة والالكترونية منها، وما تسرّب من معطيات دقيقة من اجل قليل من التصويب وكثير من التكذيب، قبل ان يظهر انّ معظم ما نُشر وتَسرّب هو من الحقائق الدامغة التي لا يَرقى إليها أيّ شك، على خلفية الاقتناع بأن ليس كل ما تَسرّب كان مجرد رغبات من صنع خيال أصحابها او استِشعاراً لِما هو متوقّع.
فمعظم الذين اتهموا بتسريب روايات وسيناريوهات وهمية، هم على تَماس قريب من مصادر المعلومات التي تتّصِف بالجدارة والثقة. ومن بينهم من هم مجرّبون مُطّلعون على كثير ممّا يمكن نَشره وما لا يمكن نشره، خصوصاً انّ بعض المرجعيات قد اختارت ناطقين جدداً باسمها يَتولّون بنجوميتهم على شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي تسريب بعض العناوين الكبيرة، وإن كان البعض منها مقصوداً بهدف تَهيئة مُسبقة للرأي العام لتسويق ما قد يُتّخذ من خطوات، فإنّ بعضها كان بهدف استدراج الخصوم الى ردّات فِعل هم في حاجة إليها. والأمثلة على ذلك متعددة، والبعض منها تحوّل واقعاً في وقت قياسي.
ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل المملة، والتي لا يستحق بعضها الإشارة اليه، فإنّ بعضاً ممّا قادت اليه التفاهمات المتصلة بالتشكيلة الحكومية منذ ما قبل تكليف الحريري وبعده يُهدّد المبادرة الفرنسية في عناوينها العريضة. والمُستغرب انها تزامنت مع إصدار اصحابها تغريدات وبيانات تؤكد الالتزام بما قالت به المبادرة الفرنسية ومعها المجموعة الدولية المتعاطفة مع لبنان، الى حد اعتبَرَ البعض انها حدّدت فصول البيان الوزاري فور الانتهاء من عملية التأليف.
واذا دعت الحاجة الى التوقف عند بعض الملاحظات التي تثبت سقوط بعض ما جاءت به المبادرة الفرنسية، فإنّ من الواجب الفصل بين ما يُطاول عملية تأليف الحكومة، والتي تتناول برنامجها في المرحلة المقبلة وفق خريطة الطريق الفرنسية المدعومة دولياً على اكثر من مستوى. وعليه، فقد التقت مراجع ديبلوماسية وسياسية على التعبير عن قلقها من بعض ما بات امراً واقعاً، فالوعود التي قطعت لتشكيل الهيئة الناظمة في قطاع الطاقة لم ينفّذ منها شيء، لا بل هناك اقتناع بأنها دُفِنت الى أجل غير مسمّى، ولم تتناول خطوات تحسين قطاع الطاقة سوى تشكيل مجلس الإدارة الجديد لمؤسسة كهرباء لبنان، والذي لم يطّلع الرأي العام بعد على أيّ نشاط قام به، أو أي قرار قد اتخذ، حتى انّ مبنى المؤسسة المُدمّر لم يشهد بعد إزالة الركام من طبقاته ومحيطه. ولم يظهر المجلس النيابي بعد ايّ نية لإصدار قانون «الكابيتال كونترول» المدفون في أدراجه بأكثر من شكل وصيغة.
والى كلّ ذلك، فقد سقط مشروع «التدقيق الجنائي» في حسابات مصرف لبنان واقترب من تَحوّله مشروعاً سابقاً، ما لم يُبتّ بالإجراءات القانونية والدستورية والتشريعية التمهيدية التي يجب ان تُهَيّء له وتسبقه لتسهيل تنفيذه. وعلى العكس، فقد تلهّى المسؤولون وتَفَنّنوا بتبادل الاتهامات والتهديدات بطريقة عرقَلت تنفيذه. ففي ظل عدم تَدارُك ما يحول دونه، تَشاركوا في جرم «استحالة تنفيذه» والبحث عن آلية جديدة لتطبيقه بطريقة أخرى تُطاوِل حسابات المالية العامة والحساب «الرقم 36» في مصرف لبنان، إذا ثَبُت انّ هناك تفاهماً جدياً عليه، وما لم يكن المسؤولون يتنازعون الأدوار التي لا تَصبّ في النتيجة الحتمية سوى الى استحالة تنفيذه منعاً من ان يحقق ما يريده احد منهم في عدد من مواقع النفوذ داخل أسوار مصرف لبنان وخارجه.
والى هذه الملاحظات التي لا تثير أي خلاف، تبقى الإشارة الى ما رافَق التأليف الحكومي لإظهار الأسباب الأخرى التي تُثير قلق المجتمع الدولي، فقد انهارت كل الضمانات التي قُطِعت من أجل تشكيل حكومة من المستقلّين من خارج التنظيمات الحزبية والطائفية واحدة بعد أخرى. وبعد ان تمّ تصنيف الرئيس سعد الحريري - في اعتباره رئيساً للسلطة التنفيذية - من خارج آلية اختيار الوزراء المستقلين والمطلوبين كحياديين، تهاوَت الشروط الأخرى، بدايةً من خلال التنازل أمام ثنائي حركة «أمل» و»حزب الله» بِحَصر حقيبة وزارة المال بالطائفة الشيعية ومَنحهما علناً حق اختيار وزرائهما، وهو ما تسبّب في تعميم هذه الحقوق على بقية الأفرقاء بلا استثناء.
وجاء مسلسل التنازلات امام «التيار الوطني الحر» و»الحزب التقدمي الإشتراكي» وتيار «المردة»، لِيُعيد لغة التفاهمات المسبقة التي اعتقد البعض انها من الماضي. وزاد في الطين بلة إعادة الإعتبار لآلية توزيع الحقائب الموزّعة على الاقطاب، والتي طاولت الوزارات السيادية (الخارجية والداخلية والدفاع) فضمّت مجدداً الى وزارة المال، كذلك بقيت الوزارات الخدماتية في مواقعها، بدءاً بوزارة الطاقة، وإن بقيت التفاهمات جارية لإعادة توزير المستشارين، وحتى عملية التشكيل فإنّ القديم سيعود الى قدمه باستثناء النيّة بحَصر المداورة بوزارات الاشغال والصحة والعدل، والحديث الخجول عن صعوبة اختيار وزارة لـ»حزب الله» اذا وضعت على لائحة الحقائب المعرّضة للعقوبات الأميركية، بعد أن أقرّ الحزب بالطوق المضروب على وزارة الصحة.
وعليه، لم يعد صعباً الحديث عن تنامي الاهمال الدولي لِما يجري واستمرار الحصار الخليجي المضروب على لبنان في ظل انشغال الفرنسيين بأزماتهم الامنية الداخلية، وهو ما زاد من قلق الديبلوماسيين تجاه كل هذه التطورات على سَلبيّتها. وعليه، طرح سؤال وجيه: هل بات الخارج بَراء ممّا يجري في لبنان؟!.