نادراً ما يمرّ يوم من دون توجيه الإنتقاد الى الجسم القضائي ومنه قاضي التحقيق العدلي في جريمة تفجير المرفأ فادي صوان، لتأخيره في إصدار قراره الظني بما يعنيه من تحديد للمسؤوليات. وهو ما دفع بمرجع قضائي الى وقف كثير من الجدل والردّ على السؤال: هل تريدون "تحقيقاً مسلوقاً"، فمثل هذه الجرائم لا يمكن البتّ بها بالسرعة التي يتوقعها البعض. وهذه بعض الامثلة.
ثمة من يعتقد من بين القضاة قبل السياسيين، انّ جريمة المرفأ في 4 آب الماضي ليست كبقية الجرائم المرتكبة في لبنان، وهي تستحق البحث عن تسمية تفوق وصفها بـ «جريمة العصر»، وهو ما يعني كثيراً، بما يفوق قدرات لبنان على مواجهة آثارها. ولولا الاندفاعة الدولية التي عبّر عنها اصدقاء لبنان، واندفاعة المجتمع المدني، لكانت الكارثة اكبر بكثير.
فقد خرق العالم العربي والغربي الحصار الاقتصادي والسياسي والديبلوماسي والنقدي المضروب على اركان السلطة في لبنان، نتيجة مسلسل الأخطاء الفظيعة التي ارتكبوها لأسباب انسانية ارتبطت بتداعيات الانفجار. ولم يخجل البعض من اعتبار ما حصل «فرصة» يمكن الاستفادة منها، لاستغلال الدعم الدولي في مجالات سياسية أخرى، تعزز مواقعهم في السلطة بدلاً من تحمّل المسؤوليات التي ترتبت على النكبة بكل وجوهها.
فإلى التضحية بحكومة «مواجهة التحدّيات» التي شكّلوها بأنفسهم من فريق او ناد واحد يُمسك بالأكثرية النيابية، بعد اسبوع على النكبة، واقتصرت ردة الفعل النيابية على استقالة ثمانية نواب، تضامناً مع المنكوبين ورفضاً للأداء الذي ادّى الى تفجير «عنبر الفساد»، فيما لم يُسجّل باقي المسؤولين في اكثر من موقع رسمي، اي ردّ فعل يُقاس بحجم النتائج التي ترتبت على ما حصل في لحظة من اللحظات. فبقيت اجهزة الدولة الرسمية عاجزة لفترة عن تقديم ابسط الخدمات للمنكوبين، بعدما تعطّل جزء من النظام الصحي وغاب الجزء الإغاثي، لتنطلق ورشة شعبية وأخرى دولية، عوّضت بعض الشيء عمّا يمكن القيام به.
كل ذلك بات ثابتاً ولا يحتاج الى نقاش، وجلّ ما قامت به الدولة التي رفضت أي توجّه الى التحقيق الدولي، انّها قبلت مرغمة الإستعانة بخدمات اجهزة امنية ولوجستية اميركية وبريطانية وفرنسية وايطالية وكلاب من تشيلي، لتقديم العون والمساعدة في التحقيقات واعمال الإغاثة. وكل ذلك كان يجري على وقع تبادل الإتهامات بين السلطات الرئيسية التي توجّت جهودها بإحالة الجريمة الى المجلس العدلي.
وبعيداً من بعض التفاصيل الأخرى المتصلة بجوانب عدة من النكبة، فقد توجّهت الانظار الى المجلس العدلي، الذي امسك بالجريمة، ووُضعت كل القدرات في تصرّف قاضي التحقيق العدلي فادي صوان، بما فيها مضمون التحقيقات الأولية التي اجرتها اجهزة الضابطة العدلية، لتبدأ عملية محاسبة القضاء، أملاً في فهم ما جرى وأسبابه وطريقة توزيع المسؤوليات منذ تلك اللحظة.
وفيما غابت ردّات الفعل على ما ادّت اليه النكبة بفعل انتشار «كورونا»، تزامناً مع أسوأ ازمة نقدية تعيشها البلاد وعجز الجهاز الطبي عن المواجهة الكاملة، لم يعد البعض مهتماً إلّا بالتحقيق العدلي الجاري، فبدأ برصد ما يقوم به القاضي صوان، منتظراً منه ان يقوم بمهمة عاجلة هي في الواقع مستحيلة، نظراً الى حجم العملية. فما تحتاجه التحقيقات من وقت بحثاً عن مصادر وهوية اصحاب المواد المتفجرة التي تمّ تخزينها بطريقة سيئة، عدا عن التدخّلات السياسية التي واكبت المسعى الذي بُذل من اجل التوسع في التحقيق مع الوزراء القيّمين على شؤون المرفأ، بالإضافة الى البحث في الاسباب التي حجبت وصول التقارير الامنية التي حذّرت من الكارثة، الى اجتماعات المجلس الاعلى للدفاع في الفترة التي سبقت الكارثة بقليل. وهو امر لا يمكن تجاهله عند الحديث عن مصير التحقيق العدلي في الجريمة.
وبناءً على ما تقدّم، لا يخفي مرجع قضائي رفيع المستوى عتبه نتيجة الحملات التي تُشن على القضاء، وتطلب منه نتائج محدّدة، ليس من السهل التوصل اليها في الفترة التي فصلت بين الانفجار وبين احالة الملف الى المجلس العدلي وصولاً الى القرار الظني، «فالوصول الى هذه المرحلة دونه عقبات كثيرة، ليس نتيجة التحقيقات التي أُجريت مع المسؤولين الموقوفين في الجريمة ومع من يجب ان يطاولهم التحقيق كشهود او متهمين في شكل من الأشكال، وقد حالت التدخّلات السياسية حتى اليوم دون توقيف اي منهم او تعرّضهم للملاحقة او قرارات منع السفر على الأقل».
واضاف المرجع: «انّ التحقيق الذي قدّمه مكتب التحقيقات الفدرالي الاميركي لم يكن حاسماً في كثير من الجوانب التي يتطلبها التحقيق العدلي، وما زال القضاء ينتظر تقارير اجهزة اخرى، ما زالت على الطريق، دون تقدير المدى الذي عليه انتظار وصولها». لافتاً الى «انّ التحقيق الفرنسي واحد من التقارير المنتظرة. فلفرنسا حق تكفله القوانين الدولية بالتحقيق في ما جرى، لمجرد انّها فقدت مواطنين من حاملي جنسيتها، ولكنهم ما زالوا ينتظرون معطيات لم تتوافر لديهم لختم التحقيق».
أضف الى ذلك، يقول المرجع، «لم نتسلّم اياً من التقارير التي وُعدنا بها من الاقمار الصناعية التي طلبها لبنان من اكثر من دولة غربية، فمثل هذه القضايا يحتاج الى كثير من الوقت. فليس هناك جهاز دولي في العالم انجز تحقيقاً في مثل هذه الجرائم بالسرعة التي يطالب بها اللبنانيون المنقسمون مبدئياً حول الجهة التي يمكن ان تكون متورطة في الجريمة. وهو امر لا يحتاج الى كثير من التوضيح. فهناك من هو مقتنع أنّ من يعتبر انّ من جاء بهذه المواد الى بيروت وكان ينقلها الى سوريا، سواء لمصلحة النظام او المعارضة فسيان، ولذلك يوجّه أصابع الاتهام، الى «انّ من سرق على انّه هو من حرق» سواء كان يدري ما يمكن ان يؤدي اليه الحريق أم لا».
واستطرد المرجع، «انّ هناك سيناريوهات كثيرة تبلّغها قاضي التحقيق العدلي من خارج ما هو متداول الى اليوم. فالحديث عمّا تسببت عملية التلحيم وامتداد شظاياها الى الالعاب النارية والمواد المتفجرة، وصولاً الى اتهام اسرائيل بالعملية، سواء من الجو او عبر فرقة من الضفادع البرمائية ليس كافياً. فهل هناك من يعلم انّ هناك تقريراً المانياً لم يتناوله الاعلام بعد. وهو يتحدث عن عملية تفجير منظمة استخدمت فيها طائرة «درون» اشعة الليزر لتفجير العنبر».
والى هذه المعطيات، ينصح المرجع بترك القضاء العدلي يقوم بمهماته. فلا يُلام او يُحاسب على توقيف فلان او علتان. فهل يريدون «تحقيقاً مسلوقاً» خالياً من المنطق والمعلومات التي تظهر أسباب الجريمة وتوثق مراحلها والمتهمين بها؟ الا يدرون ان ليس هناك من جريمة مماثلة في العالم صدرت نتائج التحقيق فيها بالسرعة التي يعتقدها البعض؟. ويعطي المرجع مثالاً، حيث قال انّ انفجاراً مماثلاً شهده مصنع للكيماويات في مدينة تولوز الفرنسية في 21 ايلول 2001 واستغرق التحقيق فيه 8 سنوات كاملة احتاجها المحققون لإثبات انّ سيجارة كانت سبباً في ما حصل، قبل ان تبدأ المحاكمة في تلك الجريمة في 24 شباط 2009.