تزامناً مع وصول وفد مؤسسة «الفاريز ومارشال»، المكلّفة التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان الى بيروت، استعداداً لمباشرة مهمتها، اظهرت سلسلة اللقاءات التي عقدها الوفد، انّ هناك عقبات تحول دون حصوله على المستندات المطلوبة لإتمام مهمته كاملة. وهو ما طرح مجموعة من الأسئلة، لا تقف عند حدود المصرف، وخصوصاً إن توسعت عملية التدقيق في اتجاه وزارات ومؤسسات أخرى. فما الذي يعنيه هذا الكلام؟
ليس من السهل التوقّع المبكر أنّ مؤسسة «Alvarez and Marsal» ستنجز مهمتها كاملة، بعدما فازت بالعقد الذي طرحته الحكومة اللبنانية، ممثلة بوزارة المال، من اجل إجراء التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، لانهاء الشكوك التي عبّر عنها عدد من المسؤولين المناهضين لحاكمه رياض سلامة، والتثبت من وجود أو عدم وجود، حالات غش او اختلاس اموال او تلاعب بالحسابات والبيانات المالية للمصرف في اكثر من مجال. كما بالنسبة الى تحديد مكان وجودها وحجمها من جهة، بالإضافة الى تحديد اماكن استخدام المعنيين صرف النفوذ ومواقع السلطة، بغية الاستفادة مادياً او عينياً، بطريقة مباشرة او غير مباشرة. وهو ما يشكّل خروجاً على كل القوانين المرعية الإجراء.
من هذه المنطلقات العلمية التي كشفت عنها الحكومة اللبنانية، بدعوتها الى مثل هذا التحقيق، يمكن النظر الى مهمة المؤسسة، وهو امر يخضع للتشكيك في كثير من الأندية المالية والنقدية والقانونية، حول امكان الوصول الى هذه الغايات، والتثبت من ارتكابات يبحثون عنها متى وأين وُجدت. فلدى الخبراء المتخصصون في التدقيق الجنائي التشريحي المعروف بالـ «Forensic audit» عشرات الملاحظات الأساسية والشكلية في آن، على مضمون العقد الموقّع مع المؤسسة، بنحو يؤدي الى التشكيك المبكر في امكان انجاز المهمة بالطريقة المثالية المنصوص عنها في الكتب والقوانين.
وبمعزل عن الحديث الذي تردّد لفترة اعقبت التوصل الى توقيع العقد مع المؤسسة الدولية، عن التعديلات التي اجراها وزير المال عليه، والتي طاولت بعضاً مما تضمنته، الصيغة النهائية التي اقرّها مجلس الوزراء، قبل ان يخفت الحديث عنها. فما كان واضحاً لدى بعض الخبراء يؤدي صراحة الى القول انّ ما هو مطلوب في العقد هو التحقق من الخسائر الناجمة عن تثبيت سعر الصرف طوال السنوات الماضية، على الرغم من كونه كان قراراً حكومياً ينفذه المصرف المركزي، كما بالنسبة الى ما رافق الهندسات المالية وطريقة معالجتها محاسبياً، كما تسجيلها للخسائر او ترحيلها الى السنوات اللاحقة، من ضمن الموجودات، كما تقول نظرية حاكمية المصرف المركزي، عند رفض احتسابها من الخسائر المحتمة على المصرف.
ولذلك، فإنّ اي مقارنة علمية بين ما هو مطلوب التثبت منه وما هو معتمد في المصرف المركزي، على مستوى السياسة المحاسبية المعتمدة لدى المصارف المركزية الرائدة في العالم، يظهر بوضوح، انّ ما طُبّق في لبنان لا يتطابق مع المعايير الدولية للتقارير المالية والإجراءات الاخرى المكمّلة لها.
وعند الدخول في التفاصيل، يبدو صعباً جداً ان يزود مصرف لبنان المؤسسة ما طلبته من تفاصيل في بعض الجوانب الدقيقة من العمليات المالية، متسلحاً بمضمون قانوني النقد والتسليف والسرية المصرفية. ولذلك، لا يتوقع مراقبون ان تتسلّم المؤسسة كثيراً من النقاط والملفات التي طلبتها، والتي اقترب مجموعها من 150 ملفاً او ورقة طلب، تأسيساً على ما قالت به المادة 151 من قانون النقد والتسليف، والمواد ما بين 41 و45 منه.
فالمادة 151 التي وضعت تحت عنوان «موجب كتم السرّ» قالت، «انّ على كل شخص ينتمي أو كان ينتمي الى المصرف المركزي، بأي صفة كانت، أن يكتم السرّ المنشأ بقانون 3 أيلول سنة 1956». ويشمل هذا الموجب «جميع المعلومات وجميع الوقائع التي تتعلق، ليس فقط بزبائن المصرف المركزي والمصارف والمؤسسات المالية، وانما ايضاً بجميع المؤسسات المذكورة نفسها، والتي يكون اطلع عليها بانتمائه الى المصرف المركزي».
وكذلك، فالمواد الواقعة بين المادتين 41 و45 التي تحدثت عن وجود «موظف برتبة مديرعام يحمل لقب «مفوض الحكومة لدى المصرف المركزي»، له صلاحيات محدّدة تقتضي السهر على تطبيق القانون ومراقبة محاسبة المصرف، ويساعده في هذا الجزء من مهمته موظف من مصلحته ينتمي الى الفئة الثالثة على الاقل من ملاك وزارة المال». ويتبلغ بقرارات المجلس المركزي للمصرف، وله خلال اليومين التاليين للتبليغ ان يطلب من الحاكم تعليق كل قرار يراه مخالفاً للقانون وللأنظمة، ويراجع وزير المال في هذا الصدد. واذا لم يُبت في الامر خلال خمسة أيام من تاريخ التعليق يمكن وضع القرار في التنفيذ. كما له حق الاطلاع على كل سجلات المصرف المركزي ومستنداته الحسابية، باستثناء حسابات وملفات الغير، الذين تحميهم سرية المصارف المنشأة بقانون 3 أيلول سنة 1956. وهما يدققان في صناديق المصرف المركزي وموجوداته. وما عليه عندها سوى «اطلاع وزير المال والمجلس، دورياً، على أعمال المراقبة التي أجراها». كما يطلع وزير المال، بعد قفل كل سنة مالية، على المهمة التي قام بها خلال السنة المنصرمة، بموجب تقرير يرسل نسخة منه الى الحاكم.
وبعيداً من المضمون القانوني لما تمّ شرحه، والذي اصطدمت «الفاريز» به، فانّ الرهان معلّق في الأيام المقبلة على امكان تسلّم المؤسسة المزيد من الاوراق يوم الثلثاء المقبل، على حدّ ما قالت وزارة المال في بيانها قبل يومين، ولكن ذلك مستبعد، فالمصرف المركزي مصرّ على الحفاظ على سرّية عملياته ولن يستسهل تسليمها. ولذلك، فإنّ جملة محاذير وتفسيرات تؤدي في النتيجة الى صعوبة مهمة «الفاريز» من دون ان يكون الامر رهناً بملف المصرف المركزي فحسب.
ففي الحسابات السياسية، انّ «الفاريز»، ولو انجزت مهمتها في المصرف المركزي، من المتوقع ان تقوم هي او مثيلات لها بعملية تدقيق مماثلة في عدد من الوزارات والمؤسسات الرسمية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، مجلس الإنماء والإعمار والصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، مرفأ بيروت، وزارة الطاقة ومؤسسة كهرباء لبنان، وربما مؤسسات خدماتية كبرى أخرى. وهو ما سيفتح العين على ما شهدته هذه المؤسسات من مخالفات مالية ونقدية مخيفة تثير الذعر في الطاقم السياسي الذي كان يديرها.
وبناء على ما تقدّم، لا يمكن التكهن بالنتائج التي يمكن ان تفضي اليها مهمة «الفاريز» في مصرف لبنان في الأسابيع المقبلة، لتندلع بعدها المواجهة الكبرى ان تجاوزت المصرف الى بقية المؤسسات الآنفة الذكر، وعندها سيكون مصير ما وعد به هذا التحقيق المركّز واضحاً. فان اكتملت فصوله كان به، وان تجاوزت مهمتها الى الوزارات والمؤسسات الأخرى فسيكون ذلك بمثابة تجاوز سابع المستحيلات الى الثامن منها.