أمّا وقد حلّت النكبة وتركت ما تركته من تداعيات كارثية، فليس على المنهمكين بإحصاء الشهداء والجرحى والاضرار والبحث عن المفقودين سوى انتظار مرحلتين: الأولى ما يمكن ان تكشفه صور الاقمار الصناعية التي طلبها لبنان من الأميركيين والفرنسيين لمعرفة اسباب الانفجار. والثانية، ترقّب وصول الموفد الأميركي الى بيروت الليلة لمعرفة الأفق الذي ينتظر المبادرة الفرنسية المطروحة في شأن الحكومة الجديدة. وعليه، ما الذي يقود الى هاتين المحطتين؟
يبدو واضحاً أنّ الحراك الديبلوماسي الذي يشهده لبنان من مختلف القارات واللغات لم يكن وارداً لولا الكارثة التي حلّت ببيروت، فالعهد في عزلة دولية لا سابق لها منذ سنوات، بعدما قاد البلد الى المحور المعادي لأصدقاء لبنان. امّا وقد جاءت النكبة بفك جزئي إنساني للعزلة، فقد قادت ايضا الى محاولة لإقناع اللبنانيين بأهمية الاصلاحات المطلوبة لفك العزلة السياسية والاقتصادية للعودة بلبنان الى موقعه الطبيعي بين مجموعة الدول الصديقة.
ليس هناك أدل الى صحة هذه المعادلة اكثر مما جرى وترجم في «استقالة» او «إقالة» حكومة «مواجهة التحديات» لا فرق. ففي الحالتين اللتين ترجمتا في ايام قليلة على وقع التجاذبات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ومن هي التي ستدفّع الثانية الثمن، فقد فشلت الحكومة في مقاربة اي من الاستحقاقات التي واجهتها أيّاً كانت الأسباب، وإن كان ابرزها ما يخفّف من حجم التهمة الموجهة اليها كاملة. فبعض وزرائها عجزوا عن القيام ببعض الخطوات البديهية التي كانت مطلوبة منهم بعدما انضَووا تحت عباءة السياسيين وانخرطوا في المواجهات الداخلية بكل وجوهها، فدفع الباقون الثمن غالياً من كفايتهم في مواجهة المصاعب التي واجهتهم.
وبمعزل عن مختلف هذه المعادلات وما يشبهها، ثمة من يراهن او يرغب بتقدّم الدور الفرنسي من جراء المبادرة التي اطلقها الرئيس ايمانويل ماكرون في اليوم الثاني لانفجار المرفأ بشقيها، الانساني والإغاثي الفوري من جهة، وذلك المُتّصل بالخروج من الأزمة السياسية والنقدية التي سبقت النكبة من جهة أخرى. ولكن دون ذلك الكثير من العقبات، فالمبادرة الفرنسية بخطوتها الأولى التي واكبت «الغارة» والتي خَطاها ماكرون في اتجاه بيروت فعلت فعلها في الشكل الكافي والمؤقت. وترجمت في مؤتمر باريس الافتراضي للمانحين وبمساعدة وصفت بأنها فورية بـ 253 مليون يورو، بمعزل عن المساعدات العينية الطبية والاستشفائية والغذائية التي سبقتها ورافقتها وتلتها من دول أخرى عبر مجموعة الجسور الجوية والبرية التي أقامتها عواصم غربية وعربية مختلفة مع لبنان.
ولذلك، يعترف المراقبون انّ الشق السياسي والاقتصادي والنقدي من المبادرة هو الأهمّ. لأنه، وفي حال انطلقت المرحلة الإنسانية الأولى من المبادرة، فإنّ الثانية تحتاج الى جهد إضافي، خصوصاً انها تتحدث عن آلية سياسية ودستورية وإصلاحية - إدارية ومالية على لبنان اعتمادها للخروج من الأزمة الحكومية، وتلك الناجمة من الإستقالات من المجلس النيابي وسبل مواجهتها في ظل الخلافات الكبرى التي فرزت اللبنانيين مجدداً بمَن فيهم أهل الحكم ورعاة الحكومة المستقيلة، وكأنّ الوضع ما زال كما كان قبل «نكبة 4 آب».
فالجميع يدرك انّ القطيعة التي يعيشها اهل الحكم مستمرة، وانّ المفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولي وتلك الناجمة من أزمة تمنّع الدولة عن دفع استحقاقاتها المالية الدولية بدءاً بسندات «اليوروبوندز» لم تتبدّل ولا يمكن المبادرة الفرنسية ان تحلّها. فهي في حاجة الى دعم دولي وإقليمي لم ينضج بعد. وهم يدركون ذلك ويعرفون حجم ما هو مطلوب من جرعات الدعم. ولعلّ أبرز ما تحتاجه يكمن في الموافقة الأميركية وتلك التي تؤثر فيها طهران، ولو بنسَب مختلفة، وهو ما يسعى اليه الفرنسيون مباشرة من خلال خطوط التواصل التي فتحت بين باريس وواشنطن وموسكو وطهران ونيويورك.
ومن هذه الزاوية بالذات تتجه الأنظار الى مهمة وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل، الذي سيصل الى بيروت مساء اليوم في زيارة رسمية تمتد ليومين دبّرت في مرحلة تلت انفجار المرفأ وسبقت استقالة الحكومة. وهو ما سيؤدي حتماً الى وضع الملفّين معاً على طاولة المحادثات، التي سيجريها مع أصدقائه المسؤولين اللبنانيين ومجموعة القيادات السياسية والحزبية والاقطاب الذين سيلتقيهم باستثناء مسؤولي «حزب الله».
وإن كان ما هو ثابت من الموقف الاميركي تجاه الازمة الإقتصادية والنقدية ما زال على حاله، فهو لم يرحّب يوماً بحكومة اللون الواحد، ليس لأنها برئاسة الدكتور في الجامعة الاميركية حسان دياب، بل لأنها جمعت ممثلين من «حزب الله» وهم يفضّلون حكومة محايدة ومستقلة تخرج من عباءة الحزب، وهو ما لم يتوافقوا عليه مع اي طرف، وخصوصاً رعاة تشكيل الحكومة السابقة. فحصروا علاقاتهم بالمسؤولين الكبار بما هو ضروري وإلزامي تقريباً، وبالحد الأدنى مما يفرضه البروتوكول وشكل العلاقات الديبلوماسية بين الدول. ولذلك لم توفّر السفيرة الاميركية في بيروت دوروتي شيا الانتقادات القاسية التي سجلتها في اكثر من مناسبة.
وبناء على ما تقدّم هناك من يعتقد انّ المبادرة الفرنسية لا يمكن ان تؤدي نتائجها بخطوات من جانب واحد، وانّ صاحبها يدرك جديّاً حجم التعقيدات القائمة على خط واشنطن - طهران وعلى حبل العلاقات المتوترة بين دول الخليج وايران، خصوصاً انّ مَسعاه السابق الذي انتهى بإخراج الرئيس سعد الحريري من الرياض في خريف 2017 كان مثالاً ما زال صالحاً. فباريس لم تنجح في مهمتها لو لم يتعهّد لها المسؤولون اللبنانيون بالنأي بالنفس قبل ان تتبخّر وعودهم في السنة الأخيرة. فتدهورت العلاقات بين لبنان ومختلف اصدقائه في العالم، واستجر اللبنانيون حصاراً مالياً واقتصادياً ونقدياً وديبلوماسياً لا يزال بعضه قائماً رغم «نِص الفَتحة» الانسانية التي جاء بها انفجار المرفأ وحجم الكارثة التي حلّت.
وعلى خط آخر، وبالإضافة الى الرهان على موقف اميركي يفتح الطريق امام المبادرة السياسية الفرنسية، هناك مهمة أخرى للاميركيين لا تقل أهمية، فما أُعلن عن طلب رئيس الجمهورية من نظيره الفرنسي صوراً للاقمار الصناعية حول ما جرى في المرفأ مساء 4 آب، هو مطلوب من الأميركيين ايضاً ولو لم يعلن.
وهو ما كشف عنه احد اعضاء لجنة التحقيق من القادة الأمنيين الذي ربط الحديث عن التثبّت من تدخل خارجي أو دور لإسرائيل في عملية التفجير، وعما إذا كانت كمية من «صواريخ المقاومة» او انّ «عتاداً حربياً» لها قد تسبب بالكارثة رهن هذه الصور متى توافرت. وهو ما يؤكد وجود واشنطن على خط الملفين الامني والسياسي. فإن تكاملت مع الجهات الدولية، فإنها قد تدفع المبادرة الفرنسية الى الامام وتسرّع بها، وإلّا لن يتغير شيء. فالمواقف التي برزت بعد استقالة الحكومة في شأن حكومة يترأسها الحريري او اخرى مستقلة «عن جَد» عن السياسيين وخالية من ممثلي «حزب الله» تحديداً، رئيساً وأعضاء، ستبقى مجرد افكار، وبعض هؤلاء ممّن شكّلوا حكومة دياب ليس على علم بما جرى في 4 آب او انه لا يعنيهم.