بقلم : جورج شاهين
من المفترض ان يبدأ معظم الأطراف المنخرطين في عملية تأليف الحكومة التراجع عن السقوف العالية التي اعتلوها قبل التكليف. وسيبدأ «مشوار التنازلات»، فالكل في حاجة الى الكل، وانّ معادلة «الجزرة الفرنسية» و«العصا الاميركية» لم تكن فاعلة بما فيه الكفاية. وان بقيت مطروحة، فليس مضموناً انّها ستُحدث التغيير المطلوب في لبنان، في انتظار ما يثبت العكس. وعليه، فما الذي يقود الى هذه النظرية؟
لا يخفي المراقبون من ديبلوماسيين وسياسيين اعتقادهم، انّ مسار التأليف والتكليف الحكومي متلازمان الى حدٍ بعيد. وانّ الشروط التي تحكّمت بعملية التكليف ستسود وتُستنسخ في عملية التأليف، بمعزل عن الآليات الدستورية التي تحكم المرحلتين. وفي اعتقادهم، انّ محاولات البعض الجارية لاستثمار هذه المرحلة، للتعبير عن قدرات خارقة وإضافية يمتلكها، ستبوء بالفشل، بعدما اثبت الجميع فشلهم في مواجهة مجموعة الأزمات التي يرزح تحتها لبنان. فقد استنفد الاطراف المعنيون كل قدراتهم في المراحل التي رافقت الازمة النقدية وسقوط النظام المصرفي والنقدي في البلاد، عدا عمّا تركته نكبة بيروت في الرابع من آب الماضي، وما تلاها من تطورات مأسوية، من اجل ضمان بقائهم في السلطة، على رغم من وجود ما كان كافياً لخوض تجربة جديدة لم ترَ النور بعد.
ويضيف هؤلاء المراقبون، انّ ما يشير بقوة الى هذه القراءة يمكن التثبت منه في التجربة التي عاشتها البلاد منذ سنة بالتمام والكمال. فلا انتفاضة 17 تشرين الاول 2019، ولا انفجار المرفأ، بدّلا من سلوك اهل الحكم، بدليل انّهم لم يغيّروا من طريقة مواجهة الحدثين معاً. وهو ما ترجمته السلطة في مسلسل تقليدي وروتيني، بدأ بإستقالة حكومة الدكتور حسان دياب (10 آب 2020) وتكليف السفير مصطفى اديب (1 ايلول 2020) مهمة التأليف، والتي انتهت باعتذاره (26 ايلول 2020) من دون بلوغه عتبة السرايا الحكومية الكبيرة، الى حين إقتراب الرئيس سعد الحريري من عودته اليها بعد تكليفه (22 تشرين الاول 2020) عشية الذكرى السنوية الأولى لاستقالته (29 تشرين الاول 2019).
ولمزيد من التفاصيل التي تسمح بالربط بين مجموعة هذه الأحداث وما رافقها، يقول المراقبون، انّ ما جرى لم يكن امراً مستغرباً بالطبع. فقد اتقن اهل السلطة تطويع المبادرات الخارجية وتمييعها، توصلاً الى انهاء مفاعيلها مهما كانت ضاغطة وقوية. كذلك نجحوا في تطويق اي حَراك داخلي مهما بلغ حجمه. ونجحوا الى حدٍ بعيد في عملية توزيع ادوار متقنة، للاحتفاظ بمكتسباتهم ومواقعهم اياً كان الثمن واياً كان عدد الضحايا. كذلك اثبتوا القدرة على فرض امر واقع لا يهتز مهما بلغت الشدائد، على قاعدة ان ليس من إشكال يثير الخوف والقلق إن وقع بين «افراد العائلة واهل البيت الواحد».
وبناءً على ما تقدّم، لا بدّ من التوقف امام بعض المعطيات التي عكستها التطورات الاخيرة، والتي لا توحي بالمفاجآت التي كان ينتظرها اللبنانيون. فكل الحملات التي سبقت التكليف تبدّلت وانحسر منسوبها الى حدٍ بعيد وبسرعة قياسية، فتراجع كثر عن التهديدات التي أُطلقت، وبقي امام اللبنانيين احصاءها وفق هذين المؤشرين:
- تراجع حركة «امل» و»حزب الله» بتزكيتهما تكليف الحريري لتشكيل الحكومة الجديدة، عن الاتهام المباشر الذي توجّها به اليه ومن خلفه الى تجمّع رؤساء الحكومات السابقين، الى حدٍ تجريمه بإحباط مهمة السفير مصطفى اديب لتشكيل «حكومة المهمّة». وإن اختلف اسلوب الطرفين، فالنتيجة واحدة بعدما توزّعا الادوار، فخاض كل منهما التجربة، كل على طريقته. وفي الوقت الذي عبّر بري عن موقفه بتسمية الحريري، والعمل لإزالة العقبات من امامه بطريقة مباشرة وبلا مواربة، فرفع اصوات المؤيّدين له الى 65 نائباً، فيما لجأ «حزب الله» الى «التورية» في موقفه، فلم يسمِّ بديلاً منه، وجلّ ما قام به، انّ موقفه رفع عدد النواب الممتنعين عن التسمية من 41 الى 53 نائباً.
- تراجع رئيس «التيار الوطني الحر» عن مجموعة مواقفه التصعيدية التي سبقت الاستشارات النيابية الملزمة ورئس وفد كتلة «لبنان القوي» الى ساحة النجمة، حيث اجرى الرئيس المكلّف استشاراته غير الملزمة، وخرج بابتسامة عريضة كان قد افتقدها قبل يوم، ومازح الصحافيين مؤكّداً وجود النية للتعاون من اجل الاسراع في تشكيل الحكومة، ولم يبق من شروطه سوى وحدة المعايير في التشكيلة الجديدة، على وقع تأكيد الحريري بنحو لا يقبل اي جدل، بتشكيل حكومة اختصاصيين من غير الحزبيين، وهو ما يمكن ترجمته بسقوط معادلة باسيل الشهيرة «إما انا وانت في الحكومة او كلانا خارجها»، لمصلحة نظرية عبّر عنها احد اعضاء الوفد في توصيفه اللقاء بـ«سمن وعسل».
لا تُحصى التنازلات بهاتين الملاحظتين فحسب، فأجواء قصر بعبدا تبدّلت ايضا ًًًعقب اللقاء الثلاثي الذي جمع رئيس الجمهورية ميشال عون مع بري والحريري. وعلى عكس الاجواء التي سادت عشية الاستشارات، فقد استبشرت اوساطه غداتها باحتمال سلوك التأليف طريقاً سهلاً في المدى المنظور، مع التشديد على بعض الخطوات الاصلاحية التي يعطيها الاولوية، رغم صعوبة تحقيقها باعتراف الأبعدين والاقربين. ومنها ما يمكن ان يؤدي اليه التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، لسبب بسيط، وهو انّ شريكيه في الحكم في المرحلة المقبلة لا يريدان هذه الخطوة، إن لاستحالة تحقيقها أو خوفاً من نجاحها وتعميمها على المؤسسات الحكومية الاخرى.
وامام هذه المؤشرات المتبدلة بين محطتي التكليف والتأليف، يبقى الرهان الوحيد ان يكون لدى الحريري اوراق مخفية لم يحن أوان الافراج عنها. فإن صح أنّ في «تطوعه» للتكليف والتأليف مبادرة دولية كبيرة، قد تتغيّر الصورة فتستعيد معادلة «الجزرة الفرنسية» و»العصا الأميركية» وهجها. ولكن ليس على قاعدة انّ اهل السلطة قد تغيّروا وانّهم يملكون وجوهاً ونيات بديلة، بل انّه حان أوان التغيير، ولا بدّ من ثغرة تفتح الطريق الى مرحلة إنتقالية، لا يُعرف من سيدفع خلالها الثمن من غير الشعب اللبناني.