اصاب الخط الذي رسمته قيادة الجيش وحمله الوفد اللبناني الى مفاوضات الترسيم الجانب الاسرائيلي بالصدمة، على رغم من الاحتياطات والحسابات التي اجراها مسبقاً. ولو لم يكن كذلك، لما ردّت اسرائيل بخط «همايوني»، لا اساس له في سير المفاوضات منذ عقد ونصف من الزمن، قبل ان تستأنف في الشكل الجاري منذ 14 تشرين الاول الماضي. وعليه ما هو مستقبل المفاوضات؟ فهل «تغامر» اسرائيل و«تقامر» بمصيرها؟
بعد اسبوع، تُستأنف المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية بين الوفدين اللبناني والاسرائيلي في جولتها الخامسة في ضيافة مكتب منسّق الأمم المتحدة الخاص لشؤون لبنان (UNSCOL) الذي اتخذ مقراً له في مقر قيادة القوات الدولية («اليونيفيل») في الناقورة وبرعاية اميركية. وذلك، بعد عطلة قسرية امتدت من الجولة الرابعة التي عُقدت في 11 من الجاري بفعل انشغال رئيس الفريق الأميركي في المفاوضات السفير جون ديروتشر بمواعيد في واشنطن. وهو ما فرض فترة واسعة بين الجولتين، بعدما كان الوسيط الاميركي، ومعه الاممي، مصرّين على تكثيف جولات التفاوض، للإسراع في المهمة على قاعدة ما قال به «اتفاق الإطار» الذي أُعلن عنه في 1 تشرين الاول الماضي من عين التينة، وقبل اسبوعين على الجلسة الافتتاحية.
وفي المسافة الفاصلة بين الجلسة الرابعة وتلك المنتظرة، بقيت ترددات ما شهدته هذه الجولة مسيطرة على مسرح المواقف المتصلة بحصيلتها، وما هو منتظر بعد الردّ الذي قدّمه الوفد اللبناني على الطرح الإسرائيلي الجديد، فأفرغه من محتواه القانوني ومشروعيته الدولية، والغى ما قال به واقترحه الوفد الاسرائيلي من معطيات لا تستند الى اي من القوانين المعترف بها، ولا سيما منها قانون البحار والاتفاقيات السابقة، من اتفاقية «بولييه كومب» التي تثبت الحدود البرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، قبل ولادة الدولة اليهودية، والتي اقرّ بها اتفاق الهدنة عام 1949، وهي التي حدّدت النقطة الساحلية التي ينطلق منها الترسيم البحري القانوني.
وعليه، فقد قدّم الوفد اللبناني على طاولة المفاوضات المستندات والوثائق والخرائط التي تثبت حق لبنان في مياهه البحرية والمنطقة الاقتصادية تحديداً، مع تشبثه بحقه الكامل في المساحة البحرية المضافة الى الخطوط السابقة وتحديداً منطقة الـ «860» كيلومتراً مربعاً، بما يقارب 1430 كيلومتراً مربعاً إضافياً، ما يرفع الخلاف على منطقة تمتد الى 2290 كيلومتراً مربعاً.
كان طبيعياً ان يستمر الوفد الاميركي الراعي والمساعد في صمته حتى اليوم، مكتفياً بتنظيم المفاوضات، بعدما آلت اليه إدارتها في الجلسة الرابعة، وتمنّى رئيس الوفد ديروتشر، تمديد المفاوضات لساعات إضافية يومها، ليكمل الوفد اللبناني ردّه على خط الـ «325» الذي قدّمته اسرائيل واجتاحت به ثلاثة بلوكات نفطية لبنانية، وصولاً الى منطقة يمكن احتسابها من نقطة ساحلية برية لبنانية ما بين مدينتي صيدا وصور، وهو ما لم يوفّر له الوفد الإسرائيلي اي موجب قانوني سوى الردّ على الخط اللبناني الذي ضرب جنوباً حقل نفط «ياريش» الإسرائيلي المتقدّم في اتجاه المنطقة الاقتصادية اللبنانية والقبرصية، بما لا يمكن القبول به.
ووفق قراءة لمراجع قانونية وديبلوماسية لبنانية، يدعمها خبراء في القانون الدولي وبرامج الترسيم، فأنّ لبنان كان ينتظر تصعيداً اسرائيلياً على المستوى السياسي، فجاءه الجواب سريعاً من وزير الطاقة الاسرائيلي يوفال شتاينتس، الذي تحدث اولاً عن تغيير لبنان رأيه في ترسيم الخط البحري 7 مرات حتى اليوم. فاللبنانيون يعرفون انّه استند الى مسلسل المفاوضات التي قادها الوسطاء الأميركيون منذ العام 2008، والتي بقيت حتى الامس القريب تجري بواسطة الزيارات المكوكية للموفدين الاميركيين بين بيروت وتل ابيب، وهي بالتحديد تلك التي قادها على التوالي كلٌ من فريدريك هوف وعاموس هولكشتاين، قبل ديفيد هيل وديفيد ساترفيلد، فديفيد شينكر.
وتضيف هذه المراجع: «لقد تناسى شتاينتس انّ كل هذه المفاوضات لم تفض الى ترسيم أي خط، فبقيت مقترحات تخضع للنقاش، من دون التوصل الى اي اتفاق نهائي يمكن ايداعه في المواقع المختصة في الامم المتحدة، التي لم تتبلّغ سوى أوراق الاعتراض والتوضيحات الاسرائيلية كما اللبنانية، ولا سيما منها تلك المتصلة بتصحيح لبنان خط الترسيم مع قبرص، والاعتراض على الاقتراح في «خط هوف»، وهو ما جعل كل هذه العناوين التي يتحدث عنها الوزير الاسرائيلي مجرد اقتراحات لا معنى لها رسمياً، محلياً او دولياً».
ويقول العارفون الذين يتوقعون ردّة الفعل الاسرائيلية مسبقاً، انّ ردّ مكتب الاعلام في رئاسة الجمهورية على مزاعم وزير الطاقة الإسرائيلي، معتبراً «انّه لا اساس له»، دفعه للانتقال الى مرحلة متقدّمة في مخاطبة رئيس الجمهورية عبر المواقع الافتراضية، وكأنّه يجري حواراً كان يتمناه الجانب الاسرائيلي منذ فترة طويلة، تمهيداً لوصوله الى مرحلة التطبيع، وهو ما لم يستجب لبنان له، الى ان ذهب الى مرحلة التفاوض غير المباشر وبرعاية اممية ووساطة اميركية.
بالتأكيد، تقول المراجع اللبنانية المعنية، انّ رئيس الجمهورية لن يردّ على مواقف وزير الطاقة الاسرائيلي، الذي ذهب بعيداً في تقديره «بعدم معرفة رئيس الجمهورية بما يتحدث عنه وخلفياته»، كما بالنسبة الى مطلبه «الحوار المباشر»، وحديثه عن «الخط البحري الذي أودعته إسرائيل في الأمم المتحدة قبل نحو 10 سنوات»، أي «خط هوف» وهو ما يعني تراجعه عن الخط الجديد الذي يُسمّى خط «325» الذي عُرض في الجولة الثالثة من المفاوضات الجارية.
ففي رأي عون، انّ كلام وزير الطاقة لا يحمل ما يدعو الى الردّ. فالمواقف اللبنانية المحصّنة هذه المرة خلف الوفد اللبناني، توفّر البدائل من الانعكاسات السلبية المحتملة من اي من الطروحات الاسرائيلية، في مرحلة يُطبّع فيها العدو علاقاته مع بعض دول الخليج العربي والسودان، وما هو مرتقب من خطوات مستقبلية لا علاقة له بسير المفاوضات المحدّدة في شكلها ومضمونها واهدافها.
فالرهان الاسرائيلي على قبول «الثنائي الشيعي» اطلاق المفاوضات لضمان ما يريده منها هو محاولة يائسة. فالموقف الذي عبّر عنه رئيس مجلس النواب نبيه بري، يساوي في نتائجه ما لا يخالفه اي مسؤول لبناني آخر. هذا ان لم يكن انّ مواقف البعض، ومنها موقف رئيس الجمهورية ومن سبقه في قصر بعبدا، يُعتبر اكثر تصلباً، ولا يمكن الرهان على اي خرق اسرائيلي في لبنان تحت هذا العنوان.
وبناءً على كل ما تقدّم، تنتهي المراجع لتقول، انّ الضوضاء التي تسبب بها موقف وزير الطاقة الاسرائيلي لا يعني سوى امر واحد، ويمكن اختصاره بمسعاه لتقويض المفاوضات ونسفها من الداخل، وهو امر مرتقب. فلبنان ومنذ الجولة الاولى من المفاوضات ينتظر تصعيداً اسرائيلياً انطلاقاً من هذه المواقف، خصوصاً وانّ ملف المفاوضات هو في يد وزير الطاقة نفسه.
واياً كانت ردّات الفعل، فالامر يلقي بمسؤوليات كبيرة على الوسيط والمسهّل الاميركي الذي يرعى هذه المفاوضات قبل الوفد الاممي، وهما كانا قد عبّرا، ومن خلفهما مجموعة الدعم الدولية من اجل لبنان، عن الاستعداد للتدخّل في اي محطة يمكن ان تشكّل خطراً على مصير المفاوضات، ولكن بتوافق من الجانبين الاسرائيلي واللبناني. وهو ما يضع الوفد اللبناني في موقع اقوى، طالما انّه يراعي القوانين الدولية ويعتمدها، ولم يستند الى منطق القوة او محاولة فرض الواقع الذي تحاول اسرائيل تعديله. وان وصلنا الى هذه المرحلة، يمكن مقاربة الملف من زوايا مختلفة، فلننتظر.