بقلم : جورج شاهين
يعتقد كثيرون انّه لم يعد للكلام طعم في ملف تشكيل الحكومة العتيدة، في ظلّ القطيعة القائمة بين بعبدا و»بيت الوسط». فاللبنانيون يعتقدون، انّ كورونا من امامهم والسلطة المربكة وراءهم، وهي معادلة تستدرجهم الى غرف العناية الفائقة، وما عليهم سوى الخيار بالمجازفة. ومن هذه المعطيات بالذات توسعت التوقعات حول ما سيكون بعد هذه المواجهة ومداها. وعليه، ما الذي توحي به؟
يزيد الاعتقاد يوماً بعد يوم في اوساط سياسية وديبلوماسية مراقبة، انّ أزمات لبنان المتداخلة والمتعددة تتطلب تحركاً فورياً وحاسماً بمسؤولية عالية، للتخفيف من تداعياتها على كل المستويات الداخلية، وبكل وجوهها الاجتماعية والتربوية والانسانية، بعد السياسية والنقدية. وهو امر ينطبق بسلبياته المباشرة وغير المباشرة في توقيته وشكله ومضمونه على الجو السياسي العام في البلاد، وخصوصاً على مستوى العهد في ثلثه الاخير، كما على مستوى حلفائه قبل الخصوم ومن مختلف الاوساط. فأركان السلطة منقسمون حول كثير من الخيارات السياسية الكبرى في المنطقة ولبنان، ومتفاهمون في الوقت عينه على استمرار العقد القائم بينهم، كأهل سلطة، في معظم القضايا الداخلية.
وليس من الصعب التثبت من وجود المؤشرات والدلائل التي تقود الى هذه القراءة، فالمعادلة بسيطة، وهي تقلّص من هامش النقاش حولها. فالأمثلة على ذلك لا تُحصى ولا تُعدّ، وفي مقدّم القضايا المنقسمين حولها، ما يتصل بتكليف الرئيس سعد الحريري مهمّة تشكيل الحكومة الجديدة، وهو ما ترجمته الاستشارات النيابية الملزمة. فأياً كانت مواقف رئيس الجمهورية قبل تكليف الحريري ومن بعده، وفي الأمس القريب، فإنّه لم يرَ الى جانبه سوى مجموعة صغيرة من الحلفاء والشخصيات. ولذلك، فقد وضعتهم في مواجهة غير معلنة مع ثنائي حركة «أمل» و»حزب الله» ومعهما «الحزب السوري القومي الاجتماعي» وحزب «الطاشناق»، لا يجرؤ احد منهم على الظهور به الى العلن، رغم التلميح والإشارات غير المباشرة الى هذه المشكلة.
والى هذه المعطيات التي تُضعف من قدرة المواجهة لدى الفريق الذي يريد اسقاط تكليف الحريري مهمة التأليف، وكأنّه لم يكن، فإنّ اي مشروع لسحب هذا التكليف غير متوافر بالطريقة الدستورية حتى الآن، وقد جُرِّب سابقاً ولكن من دون نتيجة. لا بل، فإنّ مجرد التفكير بهذه الخطوة قبل فترة، لم ير النور ولم يُعلن عنه. فالعارفون بكثير مما يدور في الغرف المغلقة، قالوا انّ اقتراحاً من هذا النوع نوقش ضمن فريق ضيّق من محيط المستائين من احتفاظ الحريري بالتكليف، ولكنه لم يخرج الى العلن، بعد استشارات شملت قريبين من حلفاء العهد، وخصوصاً في اوساط الثنائي، الذي ابلغ الى من راجعه بهذا المسار، انّه ما زال على موقفه من تسمية الحريري، ومعه مختلف الأطراف الأخرى التي ضمنت 65 نائباً لتسمية الحريري.
وعليه، وبمعزل عن سقوط هذه المحاولات، ومعها سلسلة من الأفكار الأخرى التي ما زالت مطوية في الكواليس، يبدو جلياً انّ الحريري ليس في وارد التخلّي عن المهمة التي كُلّف بها، اياً كانت المحاولات لإحراجه وإخراجه. وهو ما زال يجول بالتكليف في عدد من عواصم العالم، منذ اللقاء الرابع عشر والأخير مع رئيس الجمهورية، بعد يومين فقط على تسليمه التشكيلة الكاملة الى رئيس الجمهورية في 9 كانون الأول الماضي، من دون ان يلتفت او يعطي اي اهمية للنصائح التي أُسديت له من اجل الاعتذار، حتى من اقرب حلفائه السابقين، الذين ما زالوا يكنّون له ما لا يكنّه احد من حلفائه الجدد.
وبمعزل عن المخاوف التي عبّر عنها رافضو المسّ بالتكليف، ومنها تلك التي تحدثت عن فتنة سنّية ـ مسيحية او سنّية ـ شيعية، ان بلغت هذه الخطوة مراحلها التنفيذية، بمعزل عن النتائج الدستورية والسياسية المترتبة عليها، فإنّ التناقضات القائمة بين اركان السلطة ما زالت تتفاعل في اوساط الحلفاء، ما بين الساعين الى سحب التكليف، ودعاة صرف النظر عن الفكرة، الى ان وقعت الواقعة مطلع الاسبوع الجاري، من خلال الفيلم المسرّب من القصر الجمهوري، وما نُقل بالصوت والصورة عن الحريري وفيه، عن رئيس الجمهورية غداة ما قاله رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل.
ومما لا شك فيه، فإنّ ما تركه الفيلم المسرّب - سواء تمّ ذلك عن قصد او غير قصد ـ فإنّ تردداته على المستوى الوطني جعلت منه «جائحة» اخرى اعلامية وسياسية، باعتراف القريبين من رئيس الجمهورية قبل الاطراف الأخرى. ولذلك، لم تنفع التبريرات التي رافقت ردّات الفعل السلبية عليه في شكله ومضمونه. وهي طاولت، عدا عن الحريري المقصود في مضمونه، «بطلي الصورة» معاً، اي رئيس الجمهورية، الذي قصد إيصال ما قاله الى الرأي العام ام لا، كما في غياب اي ردّ فعل - كان يمكن او يجب ان يُقدم عليه - رئيس حكومة تصريف الاعمال الدكتور حسان دياب، عندما سمع هذا الكلام، بدلاً من ان يبدو صامتاً كدليل على ترحيبه بالمضمون.
وان غاص المراقبون في التداعيات التي تركها الفيلم، وما تلاه من ردّات فعل الحريري واستخدام القرآن والانجيل سبيلاً لإيصال الرسالة في الداخل والخارج، فإنّ البعض اشار صراحة الى تجميد كثير من المبادرات في الكواليس الديبلوماسية والمحلية، التي كانوا يسعون اليها، لتقريب وجهات النظر بين الطرفين، فإنّه ليس من السهل بالنسبة اليهم التكتم على ردات فعل الطرفين السلبية، سواء من اعتبر الامر خطأ غير مقصود، او انّه مقصود، مؤيّداً لوجود قرار بتفجير العلاقة مع «بيت الوسط»، ونقل المواجهة بينه وبعبدا الى ساحة اكثر تقدّماً، في ظلّ تجاهل الرئيس المكلّف ملاحظات عون على تشكيلة 9 كانون الاول الماضي.
وعليه، شاء من شاء وأبى من أبى، فإنّ ما بات قائماً على خط العلاقة بين الطرفين زاد من صعوبة المخارج، في انتظار حدث ما غير متوقع، وقد يكون خطيراً، يدفعهما الى النقطة الوسط، وهو امر يترقبه كثر في ظلّ مخاوف جدّية من مخاطر ما يُعدّ للساحة اللبنانية، استغلالاً لحجم ما بات قائماً من عوائق بين المعنيين بالأزمة، بغض النظر عن انعكاساته على لبنان اللبنانيين. فهناك من يعتقد انّه سيان بالنسبة اليهما ما يعاني منه البلد. فالمشكلة اعمق مما يتصوره أحد، وسط صعوبة تقدير ما يمكن ان تشهده البلاد. وطالما انّ هناك من ليس مستعدًا للتنازل، فالمواجهة تتصل بما هو آتٍ من استحقاقات، وأخطرها التحضير من الآن للاستحقاق الرئاسي، من دون مراعاة العناصر الخارجية المؤثرة فيه. وان بقي أي طرف مقتنعاً بقدرته على إدارة الملف وحيداً، وبما يضمن مصالحه الآنية والمستقبلية فهو مخطئ، وستثبت الايام عقم هذه النظرية وانعكاساتها المحتملة، بما فيها الامنية، ان تفاقم الوضع وبائياً واجتماعياً ونقدياً. فلننتظر...