بعدما فقدت لغة المصادر أهميتها في الحرب الحكومية، إنتقل أصحابها الى خوض حرب البيانات المباشرة بلغة نافرة عكستها الصدمة القاسية في الأوساط السياسية والشعبية. فالمشاورات التي جرت في غرف مغلقة تسمح لأطرافها بتقديم الرواية التي يرغب فيها أيّ منهم بسبب فقدان الشفافية ومن يؤكدها أو ينفيها. وتبعاً لذلك، طرح السؤال هل أقفل باب الانتساب الى نادي الحكومات السابقين؟
يقول أحد العارفين إنه في أوسع اللقاءات التي عقدت في أكثر من موقع، سواء في «بيت الوسط» أو في «ميرنا الشالوحي» او في الضاحية الجنوبية من بيروت، كان عدد المشاركين لا يتعدى ثلاثة او أربعة اشخاص من دون اي مساعدين ولا أمناء سر ولا محاضر. فمعظم قادة الحوار يتّكلون على الذاكرة، لذلك يمكن لأي منهم ان يقدم الرواية التي يرغب فيها من ألفها الى يائها، ويمكنه الدفاع عنها في مواجهة الآخر الى النهاية التي لا يمكن ان تنتهي بغياب الطرف الثالث القادر على تقديم الرواية الشفّافة والصادقة.
بهذه المعادلة البسيطة، يمكن إجراء القراءة لشكل ومضمون مسلسل البيانات المتبادلة بين «بيت الوسط» و»ميرنا الشالوحي» والضاحية، والتي تم تبادلها في عطلة نهاية الأسبوع بكل ما حملته من تناقضات، مع الاحتفاظ بهامش استقاء الكثير من الحقائق التي يمكن جمعها من فقرات مختلفة منها. فمَن امتهنوا وأتقنوا آلية الوساطات في بلد معقد أدركوا بعضاً من هذه الحقائق، على خلفية فهمهم حجم التقلبات في المواقف التي تتحكم ببعض القيادات اللبنانية بين يوم وآخر تحت تأثير الكثير من العوامل الداخلية والخارجية.
وعليه، وعلى وقع التشويش والتسريبات الملغومة التي انساقت خلفها وسائل الإعلام الملتزمة بهذا الطرف أو ذاك، واستخدمتها مواقع التواصل الاجتماعي والجيوش الإلكترونية التابعة لها، فقد تلاحقت سيناريوات الإتهامات بين أطراف مشروع التسوية الجديدة التي لم تنتهِ كما أرادها الطبّاخون. وعليه، فقد ثبتت بعض الوقائع القريبة من ان تكون من الحقائق، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- أثبتت رواية الوزير والنائب السابق محمد الصفدي انه لم يكن هناك خلاف كبير حول اسمه بين «ميرنا الشالوحي» و»بيت الوسط»، فهو صديق للطرفين ونجح في مدّ الجسور بشكل متواز معهما ترضية للطرفين. فهو يعلم بفعل تسوية عام 2016 انه لا يمكنه الوصول الى ما يريد من دون موافقتهما في لحظة نادرة اعتقد أنها اقتربت. فبعد ان سحب ترشيحه من الانتخابات النيابية عام 2018 في دائرة طرابلس لصالح لائحة الرئيس الحريري، لم ينفِ أحد انه شريك للوزير جبران باسيل في بعض المشاريع السياسية وغير السياسية.
وليست المرة الأولى التي وُعد بها بالدخول الى السراي وقد تكون تجربة الأمس هي الثانية المعلن عنها بعد واحدة فاشلة. وهو أمر يدعو الى البحث عمّا عطّل الإتفاق حوله لأسباب أخرى محلية وغير محلية لا يشير اليها الطرفان. هذا ما لم يكن قد تلقى الضربة القاضية من «الإنتفاضة الشعبية» في ذروة اتّقادها. فهي كانت قد وضعته على لائحة الفاسدين المستهدفين بعدما تظاهر المنتفضون قبل ساعات من التفاهم المزعوم في أملاكه في «الزيتونة باي» وساحل البربارة، حيث المخالفات البحرية المرتكبة.
- لم يكن من السهل الاتفاق على تولية رئاسة الحكومة للصفدي اذا اعتمدت الصيغة «التكنوسياسية» التي ستضم الوزراء المشاكسين جبران باسيل وعلي حسن خليل ووائل ابو فاعور ومحمد فنيش، رغم ضرورة إسقاط الإسم الرابع من اللائحة إذا طبّق مبدأ الفصل بين النيابة والوزارة، فهو من ينطبق عليه هذا الشرط من دون زملائه الثلاثة عدا عن خرق الاتفاق بضرورة أن يشمل مثل هذا التفاهم موقع رئيس الحكومة ومساواته بالوزراء رغم ما يتمتع به من موقع ميثاقي يخرجه من هذه المعادلة.
- يستشرف الثنائي الشيعي و«التيار الوطني الحر» انّ الحريري لن يقدّم العون لحكومة الصفدي، وسيخرج الى صفوف المعارضة بسرعة في اول استحقاق من الاستحقاقات الاقتصادية والسياسية الخطيرة التي سيقود اليها غيابه عن المشهد السياسي. فرغم ما يسوّق من خلافات بينه وبين دول الخليج، فإنه ليس سهلاً ان تتعامل هذه المجموعة مع الصفدي المحكوم بأكثرية وزارية ستقوده الى محور الممانعة. بينما لا تتوافر لدى الصفدي القدرة على التوجّه ولو بدرجة ملحوظة الى محطة «النأي بالنفس» بعد تجارب الحريري الفاشلة.
وعليه، هل سيكون قادراً على مواجهة دفعة جديدة من العقوبات الأميركية على بعض القيادات اللبنانية، إن لم يكن قادراً على تكرار تجربة الحريري في التمايز عن «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» كما مع رئيس الجمهورية الذي ساءت علاقته الى الحدود الدنيا مع الأميركيين، وهو ما لم يعد سراً فالكثير من المحطات تُثبت ذلك.
وبمعزل عن هذه الملاحظات على أهميتها، فإنّ الجميع يدركون انّ الحريري رفع سعر قبوله مهمة التأليف وإصراره على صيغة الـ»تكنوقراط» التي لا تشبه في أيّ من عناصرها ما يريده «حزب الله» قبل أي من الأطراف الأخرى. فهم جميعهم يدركون مسبقاً حجم الكارثة الحقيقية التي ينتظرها لبنان في القريب العاجل ما لم تجترح المعجزات لتجاوز الأزمة النقدية والسياسة المنتظرة في إطار المواجهة المفتوحة بين واشنطن وطهران، والتي قد لا تتحملها بيروت ان أبقتها طهران ساحة للمواجهة ولم تحيّدها بأقصى سرعة مطلوبة او على الأقل العودة الى تحييدها بالشكل الذي كان قائماً قبل «الإنتفاضة الشعبية».
فأنصارها يتوجّسون منها، ويخشون ان حققت أهدافها القريبة المدى فمطالبها البعيدة المدى ستطال «سلاح المقاومة» تحت شعار ان لا سيادة لدولة فيها جيشان. والبحث في هذا المجال يحتاج الى مقالات أخرى، وقد يكون ذلك برهاناً أكيداً على انّ دخول الصفدي الى «نادي الحكومات السابقين» ليس أوانه، فباب طلبات الانتساب اليه ما زال مقفلاً الى اليوم، أو انه لا يفتح إلّا بنسخة إضافية ما زالت في حوزة الحريري حتى اليوم.