في انتظار ما ستحمله زيارة الموفد الفرنسي الجديد مستشار الرئيس الفرنسي لشؤون الشرق الادنى باتريك دوريل، فقد سبقها كثير من المعطيات التي تؤشر الى ما يمكن ان تفضي اليه، وأقلّها انّها أحيت المعادلة التي انتعشت مجدداً. فهو يحمل «الجزرة الفرنسية» في ظلّ «العصا الاميركية» الغليظة. فهل سيفهم اللبنانيون الرسالة؟ أم انّهم سيستمرون في تجاهلها؟
على وقع الحديث المتنامي في الفترة الاخيرة عن موت المبادرة الفرنسية واعتبارها واحدة من أحداث الماضي التي أُدرجت على لائحة «الاستحقاقات المنسية»، بعدما تجاوزتها التصرفات بكل مندرجاتها الأساسية وجعلتها واحدة من الفرص الضائعة من امام اللبنانيين، وصل الى بيروت أمس مستشار الرئيس الفرنسي لشؤون الشرق الادنى باتريك دوريل، في مهمة عاجلة في توقيتها، وغامضة في شكلها ومضمونها. إذ انّها جاءت من خارج التوقعات والرهانات السابقة التي قالت بانتهاء مفاعيل المبادرة الفرنسية. وما عزّز هذا الاعتقاد، انّها تحمل أولويات جديدة، بعدما تعثرت اولى خطواتها الحكومية المعروفة.
فالموفد الرئاسي الفرنسي، الذي لم يتعرّف اليه اللبنانيون بعد، ظهر وكأنّه يترجم الوجه الجديد الذي رغبت ادارة الرئيس ايمانويل ماكرون ان تقدّمه عن المبادرة الفرنسية، بدءاً بتغيير الفريق الذي يديرها. ولا يتجاهل احد اهمية ما عبّرت عنه الزيارة من تأكيد انّها ما زالت قائمة ويمكن احياؤها، رغم انشغالاتهم الداخلية في أي لحظة، بما يضمن وجود قرار فرنسي جدّي وثابت بمساعدة اللبنانيين في تجاوز النكبة. كما الاصرار على تعطيل سعي البعض من القادرين - عن قصد او غير قصد - الى وأدها، لمجرد انّ بطلها السفير مصطفى اديب قد اعتذر في 26 ايلول الماضي عن تشكيل «حكومة المهمّة»، فوضع حجراً كبيراً على قبرها وليس بقدرة اي كان إزاحته.
وفي انتظار ان تتكشف الاهداف من الزيارة، طُرح عدد من الأسئلة عن الظروف التي أملت توقيتها وما يمكن أن تأتي به. فالجميع يعرف التلازم الذي قام بين المبادرة الفرنسية، منذ اطلاقها في الاول من ايلول الماضي، والخطوات الدولية التي ترافقت معها وانعكست عليها، كما هي حال العقوبات الأميركية التي تزامنت مع مهمة اديب، وردّ تعثرها اليها، عندما طاولت في عزّ عملية التأليف وزيري المال والاشغال السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، بالإضافة الى ما يمكن ان تعكسه العقوبات الاخيرة على رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل قبل ايام، وسط التشكيك في ما يمكن ان تؤدي اليه من تعثر حكومي.
والى هذه العناصر وغيرها، لا بدّ من الإشارة الى انّ ما اصيبت به المبادرة الفرنسية قبل صدور العقوبات، وما سُجّل من خروج اللبنانيين على ابسط عناوينها، وما قاله اهل الحكم والحكومة، فليس كافياً ان يؤكّدوا صباحاً ومساء التزامهم مضمون المبادرة، بعدما خرجوا عليها في إدائهم وتصرفاتهم في اكثر من مرحلة بدءاً بالمحطات الآتية:
- عدم الالتزام مسبقاً بتسمية وزراء حياديين ومستقلين، بعدما نالت حركة «امل» حقيبة وزارة المال من دون أي نقاش. ويأتي اصرار ثنائي «حزب الله» و»الحركة» على تسمية وزرائه ليشكّل خروجاً على مبدأ الإستقلالية والحيادية. وما يزيد في الطين بلّة، انّ معظم الأطراف يريدون استنساخ التجربة، فلا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بعدما انسحبت آلية التسمية عينها على بقية الأفرقاء من «الحزب التقدمي الاشتراكي» الى «المردة» و»التيار الوطني الحر» و»الحزب السوري القومي الاجتماعي» وكتلة «الوسط» النيابية، عدا عن اولئك الذين سيسمّيهم كل من رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، وخصوصاً انّ بعض الأسماء التي تسرّبت لا توحي بوجود المستقلين بل كانت اسماء لمستشارين حاليين وسابقين.
- عدم اظهار أي نية للقيام ببعض الخطوات التي تحدثت عنها المبادرة الفرنسية، والتي كان على مجلس النواب وحكومة تصريف الاعمال القيام بها. فطُرحت الاسئلة عمّا اعاق المجلس في جلساته الاستثنائية التي تُعقد في زمن «كورونا»، من تعثر «التدقيق الجنائي» بتفخيخه الى درجة استحالة تنفيذه، وتأجيل البت بقانون «الكابيتال كونترول» او تعيين الهيئة الناظمة في قطاع الكهرباء، عدا عن المصير الغامض للتشكيلات القضائية التي اقترحها مجلس القضاء الاعلى، والتي إن طُبّق الدستور يجب ان تكون أمراً واقعاً لا جدال فيه، بعدما رفض رئيس الجمهورية توقيع مرسومها ضمن المهل القانونية والدستورية.
- اصرار البعض على تجاهل ما يعانيه اللبنانيون وسكان المنطقة المنكوبة من بيروت خصوصاً، وتركهم لمصيرهم، وسوء التقدير في ما يجب القيام به لمواجهة ازمة النفايات وجائحة الكورونا، وما اصاب القطاع الطبي، وسط جدال عقيم عن حجم الفساد المستشري في بعض القطاعات الى حدود لم تعد خافية على أحد، قريباً كان من أهل الحكم أو بعيداً منهم. وهو ما وضع المسار الانمائي والطبي والبيئي على طريق الانهيارات المتتالية.
قد يطول العدّ عند احصاء ما كان يجب القيام به بمبادرة من اهل الحكم والحكومة، لتسهيل المبادرات الخارجية وملاقاتها في منتصف الطريق، ولكن على من يراقب الحراك الفرنسي المستجد، ان ينظر الى ما يجري حوله دولياً. فالتشكيك في الدعم الاميركي الممنوح لهذه المبادرة سقط في اكثر من مناسبة ومحطة، وظهر أنّ واشنطن اعطت باريس كل وسائل الدعم والتفهّم لحجم وشكل مبادرتها وما ارادته منها خلاصاً للبنان واللبنانيين. ولكن عدم تجاوب اللبنانيين وقدرة البعض منهم على تفخيخها ولبننتها جعلا الاميركيين في موقع المبادر مجدداً، فكانت سلسلة العقوبات. ومن يريد قراءتها بغير هذه المعاني، فإنّه يخاطب نفسه في المرآة ويحصي المِهَل والتحذيرات التي تلقاها مسبقاً. وان نجا البعض منها بـ «دهاء»، فيبدو انّ ما صدر منها لن يتوقف عند ما طاولته من شخصيات، والآتي في وقت قريب قد يكون اكثر أو اقل إيلاماً بالنسبة الى من ستطاولهم وهم كثر وفي اكثر من موقع وجهة حزبية وسياسية.
والى هذه المعطيات، لا يجب ان نتجاهل اصرار وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو على شرحه اليومي المستفيض لمسار العقوبات وربطها بالتطورات على الساحة اللبنانية والمنطقة، انطلاقاً مما قالت به القوانين الأخيرة كقانون «قيصر» او «ماغنيتسكي»، في وقت يستعد لزيارة باريس عندما يعود الموفد الفرنسي اليها قبل نهاية الاسبوع الجاري، وذلك من ضمن جولة تقوده الى المنطقة والخليج العربي.
وبناء على ما تقدّم، لا يسع المراقبون إلّا التوقف عند بعض العناوين التي يمكن ان يحملها الموفد الفرنسي، والتي توحي أنّ لديه طرحاً بإحياء الجهود لتشكيل الحكومة الحيادية والمستقلة، وهو ما سيؤدي الى نسف الجهود المبذولة منذ فترة لتقاسم الحقائب السيادية والخدماتية، في مرحلة توحي أنّ الحديث عن معادلة «الجزرة الفرنسية» المعروضة مرة أخرى على اللبنانيين، على وقع «العصا الاميركية الغليظة» المستخدمة، قد تجدّدت فصولاً. ولذلك قد لا يطول الوقت للتثبت من مهمة الموفد الفرنسي الجديد، وما يحمله من طروحات جديدة ان سلكت مرحلة احياء هذه المعادلة. ولذلك، إن اراد اللبنانيون فهمها كان به، وفي حال العكس، ليس صعباً تقدير ما هم مقبلون اليه من حجم الانهيارات المتوقعة والأزمات المستفحلة.