تتجّه الأنظار غداً الى الناقورة، حيث تُستأنف مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، في ظلّ توقعات أن تقدّم اسرائيل جوابها المفصّل على «الخط الوسطي» اللبناني. وان صحّت التسريبات الواردة من الاراضي المحتلة، فإنّها ستقدّم خطاً جديداً يجتاح منطقة الـ «860 كلم» في اتجاه الشمال من دون اي اساس او مسوغ قانوني، رداً على اجتياح الخط اللبناني لبئر «ياريش» جنوباً. فما الذي يعنيه ذلك؟
عند التاسعة والنصف صباح غد الاربعاء، يعود الوفدان اللبناني والاسرائيلي الى طاولة المفاوضات في الناقورة، في ضيافة قيادة «اليونيفيل» وفي حضور الراعي الاميركي، لإستكمال البحث في الخط «الوسطي» الجديد المطروح من الجانب اللبناني، وفي انتظار ما وعد به الجانب الاسرائيلي من ردّ مفصّل عليه سواء بتعديله او نقضه، بعد الاعلان عن رفضه على خلفية شطر حقله النفطي «ياريش»، متجاوزاً صيغة الـ «860» كيلومتراً مربعاً المتنازع عليها، ليُضمّ الى حصة لبنان مساحة بحرية إضافية تزيد المنطقة المستعادة الى 2290 كيلومتراً مربعاً.
ليس مستغرباً ان تُقدم اسرائيل على خطوة متقدّمة من دون اي سند قانوني، تعيد خلط الأوراق مجدداً، وتقدّم الوجه الآخر لعملية الترسيم المنتظرة في المراحل الاولى من المفاوضات، التي يطرح فيها الطرفان اقصى ما يريدانه منها، على خلفية التزامهما السقف العالي. قبل ان تبدأ المفاوضات الجدّية بحثاً عن المخارج او الحلول الوسطية التي يتوافقان عليها.
لم يعد هناك من شك، انّ الوفد الاسرائيلي عبّر بجديّة عن المفاجأة التي حملها الطرح اللبناني الجديد، الذي تجاوز ما كان مطروحاً سابقاً في المفاوضات التي استمرت لسنوات عدة، دون التوصل الى خط بحري نهائي يُلزم الطرفين. فقد بقيت معظم المناقشات التي تولتها مجموعة من الموفدين الاميركيين في جولاتهم المكوكية بين بيروت وتل ابيب من دون التوصل الى «خط ملزم» للطرفين. وبقي الوضع بين اخذ ورد الى ان تمّ التوصل الى «اتفاق الإطار» في1 تشرين الاول الماضي، والذي اقرّ بالآلية المعتمدة اليوم في المفاوضات غير المباشرة التي تستضيفها الامم المتحدة وترعاها الولايات المتحدة.
وان كان المنطق يقول انّه بات لزاماً على الجانب الاسرائيلي ان يردّ على اقتراح لبنان بالطريقة العلمية عينها وبكل المقتضيات القانونية، فيقدّم البديل معدّلا. فالوفود المتحلقة حول طاولة المفاوضات تنتظر جواباً اسرائيلياً يوازي في اهميته ما حمله العرض اللبناني، بعدما بادر الى التريث حتى جولة الغد ليغوص في البديل المنتظر.
وفي الوقت الذي كانت تل ابيب تواكب الاستعدادات اللبنانية للمفاوضات قبل استئنافها في 14 تشرين الاول الماضي، وما قدّمه الخبراء والمعنيون بها من شروحات كافية لتبرير اعتماد الخط الوسطي الجديد والظروف القانونية التي تدعمه وأملت امتداده الى جنوب منطقة الـ «860 كلم»، ما زال لبنان يرصد حتى الامس ما يمكن ان يقدّمه الجانب الاسرائيلي من ردود، استعداداً للمواجهة الكبرى المنتظرة بكل وجوهها القانونية الدولية والآليات المعتمدة في ترسيم الخطوط البحرية بكل تعقيداتها والنظريات المتعددة.
وعليه، سيبقى الإنتظار سيّد الموقف الى ان تُعقد الجولة المقبلة غداً، والى ان يتقدّم الجانب الاسرائيلي بطرحه، وسط تكهنات باحتمال وجود اكثر من صيغة أخرى للترسيم قد يعتمدها الجانب الاسرائيلي في ردّه. وهو ما دفع تلقائياً الى وضع سلسلة من الخيارات المحتملة، التي على لبنان اخذها في الاعتبار وصوغها وتقديمها بالطريقة التي تحمي طروحاته وتعطّل اي صيغة اسرائيلية خالية من اي مسوّغ قانوني دولي، يتناقض ومضمون الطرح اللبناني، ويبرر كل ما جاء فيه من مطالب.
إلّا انّ الجانب اللبناني لا يخفي اعتقاده باحتمال ان تسعى اسرائيل الى الاستفادة من سعيها الدائم الى تغيير بعض الوقائع لفرض امر واقع جديد، سعت الى تكريسه في السنوات الماضية، عبر فرض قواعد جديدة تتحكّم بالعلامة البرية التي يجب اعتبارها نقطة الارتكاز في عملية ترسيم الخط البحري بين كونها «صخرة» او «جزيرة»، عدا عن تعديلها للبوابة الحدودية التي كانت قائمة بين لبنان وفلسطين عند ترسيم حدودهما عام 1923 بإزاحتها شمالاً. كما انّ بقدرتها الاعتماد على نقاط بحرية اخرى لا تتناسب والمنطلقات اللبنانية، بعدما جرى الحديث عنها في مشروع الإتفاق اللبناني ـ القبرصي الذي عُقد عام 2008 والذي لم يكتمل فصولاً ولم يبت به رسمياً، بعدما اعاد لبنان تصويب هذه النقاط وتسجيل ملاحظاته عليها وايداعها الحكومة القبرصية واطلاع الامم المتحدة عليها، بعد اربع سنوات، من دون التصديق النهائي عليها، وهو ما ابقاها نقاطاً مؤقتة قابلة للتعديل في اي لحظة.
وفي هذه الظروف التي تملي التريث في الحكم على شكل الرد الإسرائيلي ومضمونه، قبل الاطلاع رسمياً عليه غداً إن صدق الجانب الاسرائيلي بوعده، فانّ ما ما تسرّب عبر وسائل الاعلام الاسرائيلية يشي بوجود طرح جديد، اشارت اليه صحف اسرائيلية ووصفته بأنّه «خط جديد للترسيم وفق خريطة جديدة تقتطع كل المساحة المتنازع عليها». اي انّه يتجاوز منطقة الـ «860 كيلومتراً» في اتجاه المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان، ويقتطع اجزاء إضافية من البلوكات النفطية اللبنانية 8 و9 و10.
ولذلك، يتوقف الخبراء اللبنانيون امام مجموعة من المعطيات التي يمكن ان تؤدي الى نسف المقترح الاسرائيلي انطلاقاً، من القول انّ المفاوضات السابقة لم تنته الى ترسيم نهائي، لا للمنطقة المختلف حولها ولا لخط «فريدريك هوف» الذي اقدم على تقسيمها بين البلدين، تسهيلاً للتفاهم بينهما، من دون ان يكرّسه اي اتفاق من الجانبين، قبل ان تُعلّق المفاوضات بعد ذلك الى الأمس القريب.
وعليه، يعتقد المراقبون ان ليس بقدرة الجانب الاسرائيلي تجاوز حدود المنطقة المتنازع عليها ليقترح خطاً يتجاوزها في اتجاه الشمال، فكل اقتراحاته السابقة واستناده الى نقاط برية وبحرية اجهضها الجانب اللبناني في اقتراحه، ولم يعد امام اسرائيل اي باب قانوني للدخول منه، وهو ما يزيد الاعتقاد في انّ الطرح الاسرائيلي المقبل سيفتقر الى كثير من عناصر القوة، ولن يقنع احداً من الوفد اللبناني ولا الراعي الأميركي، طالما انّه تجاوز كل المعطيات السابقة التي تحكّمت بالمفاوضات. ولذلك، فإنّه سيكون من السهل على الجانب اللبناني وضع هذا الإقتراح في الخانة السياسية لا القانونية، وهو ما يدفع الى البحث عن النيّة الاسرائيلية لتعقيد المفاوضات تمهيداً لنسفها.
وختاماً، لا يُسقط المراقبون من حساباتهم امكان تجدّد المسعى الاسرائيلي لوقف المفاوضات، في انتظار الظروف التي تكرّس له ما سعى الى فرضه كأمر واقع تدحضه القوانين الدولية واتفاقية الهدنة. وعندها سيبرز الدور الأميركي الراعي والمسهّل للمفاوضات. وسيكون عليه ان يعطي رأياً، وهو الذي احتفظ بصمته الى اليوم ليلعب دور «الراعي المسهّل» و»المراقب» معاً، الى ان يحين الانتقال الى المرحلة التي سيقترح فيها البدائل وليمارس ضغوطه في اتجاه تكريس اي حل يضمن الحدّ الأدنى من مطالب الطرفين، فتدخل المفاوضات من بعده مراحل اكثر دقة وربما أكثر سرّية لتخريج الحل في افضل الظروف، وهو ما لا يمكن التكهن بإمكان حصوله من الآن.