بعد مسلسل التجارب المذهلة غير المسبوقة التي عاشها مرفأ بيروت وما قادت اليه من نكبات، ارتفع الصوت عالياً للإنتقال بادارته من «مزرعة» الى»مؤسسة»، وهو امر بات ملحّاً لمنع تكرار ما حصل منذ 4 آب ووقف مسلسل التجارب التي سدّت الطريق الى استعادة الثقة بإدارة مرفق حيوي بهذا الحجم. ولذلك طرح السؤال عمّا هو مطلوب من مقومات تضمن الانتقال الى تلك المرحلة؟
على وقع سلسلة المهازل المرتكبة في كثير من المؤسسات والقطاعات الرسمية، وعلى اكثر من مستوى، يبدو واضحاً انّ معظم اللبنانيين فقدوا الثقة بالدولة ومؤسساتها وبإمكان تطبيق القوانين والأنظمة التي ترعى العمل في كثير منها. وبات معظمهم على موعد شبه يومي، مع سيل من المفاجآت المستنسخة عن الأفلام المكسيكية بحلقاتها التي لا تنتهي. فإلى ما تركته الأزمة الاقتصادية والنقدية، وتلك التي جاءت بها جائحة كورونا من آثار سلبية على حياتهم، جاء انفجار المرفأ في 4 آب، ليرسم اكثر من علامة استفهام حول قدرة المسؤولين على إدارة شؤون الناس وحماية ارواحهم في منازلهم ومكاتبهم وعلى الطرق، وتوفير ابسط مقومات العيش في لبنان.
وبعيداً مما يمكن ان يتناول مختلف وجوه حياة اللبنانيين، فقد توقفت مراجع معنية امام هول ما يجري في مرفأ بيروت، من مظاهر الفشل في حماية ما تبقّى من منشآته ومحتوياته. وما زاد في الطين بلّة، ما تسبّبت به مجموعة الحرائق التي تجدّدت في العنابر والمنطقة الحرّة القريبة من موقع التفجير، لتزيد من مخاوف اللبنانيين، وتلقي الضوء على المخاطر الناجمة عن إدارة المرفأ بطريقة غير مألوفة في المرافق العامة والمؤسسات الشبيهة. فالتضارب في الصلاحيات بين الهيئات الإدارية والمالية والجمركية والأمنية، بلغ الذروة، وكشف كثيراً من الفساد المتنامي، قياساً على حجم الفضائح المرتكبة، في ظلّ «هيئة مؤقتة» ما زالت تتحكّم بإدارته منذ ثلاثة عقود بطريقة عشوائية، تنمّ عن مخاطر بدأ اللبنانيون يعيشون فصولاً رهيبة منها.
ولذلك، فقد سجّل عدد من المسؤولين الذين عايشوا المراحل الذهبية للمرفأ استغرابهم للصمت الرسمي على ما يجري فيه، والقصور في وضع حدّ له، وهو ما سهّل حصول ما حصل في الرابع من آب، وما تسبّب به من مجازر ونكبات، وما تلاه من أحداث مقلقة.
وعند البحث عن البدائل لما هو قائم وطريقة تجنّب مزيد من الكوارث، فقد وزعوا المسؤوليات على مختلف الأطراف المعنية بالمرفأ، من اعلى الهرم الرئاسي والوزاري الى ادنى المستويات الادارية والأمنية، وهو ما لامسه المجلس الأعلى للدفاع في اجتماعه امس الاول للمرة الأولى، بتكليف لجنة وزارية - ادارية - امنية ومالية، للانتقال بإدارة المرفأ من كونه «مزرعة» للفاسدين من مختلف الاطياف، الى مؤسسة عامة أو مشتركة بين القطاعين العام والخاص، تسمح بتحديد المسؤوليات عند حصول امر ما، اياً كان شكله ونوعه.
وعليه، يعترف مرجع معني بالمرفأ، انّ ما طُرح أمس الاول في اجتماع المجلس الأعلى، يفرض آلية جديدة تقوم على مجموعة من القرارات والمبادرات التي لا يمكن تأجيلها، سعياً الى معالجة جذرية آن اوانها، ولم يعد هناك اي مجال للتهاون في شأنها. فالمرفأ يحتاج الى جراحة تستند الى كثير من الخطوات وابرزها:
- تجميد العمل في المرفأ على الأقل في الجزء المدمّر منه، والعمل على احصاء محتويات عنابره وتفريغ ما يمكن سحبه من البضائع بالتعاون مع اصحابها، ومن يغيب منهم يجري التصرّف بما يملكه وفق ما هو معتمد من قوانين.
- تعيين مجلس إدارة جديد للمرفأ، يُنهي آلية العمل بـ «الهيئة المؤقتة»، تكون اولى مهماته، بالتزامن مع برنامج الترميم واعادة الاعمار، وضع تنظيم جديد يتناول مختلف اوجه العمل فيه.
- تشكيل جهاز امني خاص بالمرفأ يكون تابعاً لمجلس إدارته. فلا تتكرّر التجارب المرّة المعقّدة في مطار بيروت الدولي، الذي تتوزع فيه المسؤوليات بين وزارات عدة، تحول دون تحديد المسؤوليات وتجهيل المسؤول عند حصول اي حادث.
لا تقف المعالجات عند هذه الأفكار، وهناك من يقترح السعي الى تزخيم التحقيقات القضائية التي يجريها المحقق العدلي، في سعيه الى تحديد المسؤوليات ووقف تسريب محاضر جلسات التحقيق الى وسائل الاعلام المختلفة، ووقف استخدامها في البازار السياسي المفتوح على شتى الاحتمالات، ويمنع تصرّف عديمي الخبرة بالمعلومات. وهو إجراء غير كافٍ، منعاً لاعتباره اعتداءً على حرّية الاعلام، ما لم يترافق مع بيانات رسمية يتولّى القضاء نشرها، لتضيء على مجرى التحقيق بشفافية وصدقية لا يرقى اليها الشك. فمن حق اللبنانيين، منكوبين ومصابين ومذهولين جراء ما ادّت اليه سلسلة الانفجارات والحرائق، ان يكونوا على اطلاع بما يقوم به القضاء، والتثبت من صدقيته والوعد بالمحاسبة والتثبت من الأخبار الكاذبة، سواء أطلقت دليلاً على براءة مطلقها «الجاهل»، او بإرادة من يريد تشتيت التحقيق وتجهيل المسؤول.
وطالما انّ التحقيق لدى المحقق العدلي قد شمل، بالإضافة الى المتهمين الموقوفين، عدداً من الشهود ومنهما رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب ووزير الاشغال العامة والنقل فيها ميشال نجار، فلا يحول حائل دون فتح الطريق الى الإستماع الى بقية رؤساء الحكومات والوزراء السابقين المعنيين بالملف منذ دخول هذه المواد المتفجرة الى المرفأ.
وختاماً، لا يخفي العارفون حجم الرهان الخارجي على مثل هذه الإجراءات التي ستكون تحت المراقبة اللصيقة من الجهات الدولية والاقليمية الراعية للمرحلة المقبلة، وتلك المانحة، من اجل احياء الثقة الدولية والمحلية المفقودة بالدولة ومؤسساتها واجهزتها، فإنّ عليها سيُبنى كثيراً مما هو منتظر من محاسبة او عدمها، للتثبت من حجم التزام اللبنانيين بما تعهدوا به امام الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، بغية تنفيذ خريطة الطريق الفرنسية ـ الدولية، مع ضرورة عدم تجاهل التحذيرات مما هو خطير وآتٍ، ما لم يثبت اهل الحكم قدرتهم على ادارة المرحلة الإنتقالية، قبل أن يصطدموا بما هو متوقع من عقوبات لا يحول دونها سوى ما يثبت النية باللجوء الى عكس ما هو قائم من سلوكيات على مختلف المستويات.