في منتصف المهلة الفرنسية الفاصلة بين تكليف السفير مصطفى اديب تشكيل الحكومة وولادتها، ثبت بالوجه الشرعي انّ الطرح الفرنسي قائم على وقع «الجزرة الفرنسية» التي قدّمها الرئيس ايمانويل ماكرون و»العصا» الاميركية التي رفعتها وزارة الخزانة في وجه بعض المعنيين بـ «حكومة المهمة». وهو ما ادخل المبادرة الفرنسية في غرفة «العناية الفائقة» في الايام المقبلة. وعليه كيف يمكن تفسير هذه المعادلة
سخر كثر عندما قيل انّ مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر يتولّى بـ «عصا العقوبات الغليظة» تنفيذ الوجه الآخر للمبادرة الفرنسية «الناعمة» التي اطلقها الرئيس ايمانويل ماكرون من بيروت مطلع ايلول الجاري.
وليبرّر اصحاب هذه النظرية سخريتهم، انصرفوا الى الإشارة الى الحديث عن «طحشة» اميركية قادها شينكر، من اجل عرقلة او تعطيل هذه المبادرة. ولما لم يثبت ذلك بالسرعة التي توصل اليها اصحاب هذه النظرية، قيل انّ شينكر قاطع المسؤولين الرسميين وخصّص زيارته الى بيروت للقاء المعارضة والنواب المستقيلين وممثلي الانتفاضة من المجتمع المدني، لتحريضهم على ما قالت به «خريطة الطريق» الفرنسية، من ان ينتبهوا الى امكان وجود عملية توزيع ادوار دولية، لا بدّ من ان ينال اللبنانيون نصيبهم منها.
وبقي الجدل قائماً حتى مساء امس الاول الثلثاء، عندما أذاع مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في وزارة الخزانة الأميركية (أوفاك) لائحته الجديدة بالشخصيات اللبنانية التي ضمّتها الى برنامج العقوبات، بتهم التعاطي مع الإرهاب وارتكاب جرائم الفساد، كما يقول القانون الأميركي. وكان لافتاً انّ العقوبات الاميركية شملت هذه المرة صنفاً جديداً من المسؤولين اللبنانيين، لم تطاولهم اي عقوبات من قبل.
فبعد ان طاولت العقوبات السابقة نواب «حزب الله» وعدداً من مسؤوليه العسكريين وشخصيات قريبة منه وشركات تجارية ومصرفية ومالية، وضعت في دائرة الشبهة لارتباطها بأموال الحزب ومصالحه، شملت اللائحة الجديدة شخصين من اصدقائه وحلفائه القريبين، المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب، وبصفة مضافة، نائب حالي ووزير سابق للمال علي حسن خليل، وأحد قياديي تيار «المردة»، وبصفته وزيراً سابقاً للاشغال العامة والنقل يوسف فنيانوس.
واتهمتهما بالتعاون مع «حزب الله»، الذي تصنّفه «منظمة إرهابية» وبـ «الضلوع» في عمليات فساد بـ «استخدام أبواب خلفية لعقد صفقات مع «حزب الله» من أجل منافع شخصية على حساب الشعب اللبناني». كذلك ميّزت فنيانوس بتهمة إضافية لا تقلّ خطورة عن مثيلاتها بـ «السعي الى الاستحصال على معلومات سرّية عن عمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان».
وتأكيداً لما سبق من اتهام، فقد أُعطي القرار ابعاده السياسية والديبلوماسية المكملة له، في اعتبار كل من وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو، ومعه مساعده لشؤون الشرق الادنى ديفيد شينكر، انّ ما أُعلن عنه هو «الخطوة الاولى لمعاقبة كل سياسي لبناني يساعد «حزب الله».
وهو ما جعل قيادتيهما في حركة «امل» وتيار «المردة» تلقائياً، في دائرة الشبهة الأميركية لتحالفهما مع الحزب، وربما وصل الأمر الى ايران، لمجرد انّ القرار نفسه ضمّ مسؤولين فنزويليين بتهمة الفساد معطوفة على أخرى، من خلال التعاطي مع طهران حليفة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو موروس.
وبمعزل عمّا جاء به القرار من معطيات وشروحات تفصيلية، فإنّه يحتمل تفسيرات أخرى، لمجرد اعتباره قراراً اولياً، استباقاً لدفعات أخرى تطاول عدداً من المسؤولين من العيار عينه. ولذلك، توسعت السيناريوهات التي تحاكيه في توقيته وشكله ومضمونه، وخصوصاً انّه تزامن والمعالجة الدولية لترددات انفجار «العنبر 12»، وما كشفه من استهتار وفساد وما تلاه من ارتدادات سياسية وحكومية، زادت من صعوبة الوضع في لبنان الى حدود اقترابه من «الإنهيار الكامل».
ولذلك، بات لزاماً على المراقبين وضعه في إطار السعي الى تنفيذ المبادرة الفرنسية، بما تقتضيه من قرارات جريئة وجدّية لتسهيل ولادة «حكومة المهمة». وهي خطوة ستليها استحقاقات كبرى ومختلفة على اكثر من مستوى داخلي واقليمي ودولي، لا بدّ من بلوغها ان سارت الأمور بما قالت به المِهَل الفرنسية التي قلّصت هامش الحركة الى الحدود الدنيا امام اطراف عديدة.
ولا تغفل السيناريوهات الجديدة الإشارة الى ضرورة تعديل المواقف والتوجهات لدى بعض المعنيين بالمهمة، من باب قدرتهم على التغيير في الإداء والممارسة. فقد كان البعض منهم يعتقد صادقاً انّ لديه الوقت الكافي لتطويع المواقف وادارة الوقت، بما يسمح له بتحقيق ما اراده، قبل ان يفرض الواقع الجديد مقاربة ما هو مستحق، بتغيير جذري غير مسبوق على اكثر من مستوى داخلي واقليمي ودولي، للخروج بلبنان من دائرة الحصار الاقتصادي والمالي والديبلوماسي، الذي قادته اليه السياسات الفاشلة لأهل السلطة المستهدفين بهذا القرار، سواء عن قصد او غير قصد.