أسقطت زيارة نائب رئيس الحكومة وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني لبيروت، في شكلها ومضمونها، السيناريوهات التي بُنيت على عجل. فما تسرّب قبل ساعات على وصوله عن مشروع لـ «دوحة 2» لم يكن جدّياً، وما انتهت اليه اثبت انّ المبادرة الفرنسية ما زالت في الطليعة، وانّ لا «قطرة إضافية» من قطر قبل تشكيل الحكومة. فما الذي قاد الى هذا الاعتقاد؟
قبل الاعلان عن الزيارة المفاجئة للديبلوماسي القطري الى بيروت بفترة طويلة، لم تُذكَر الدوحة على لائحة الدول المتعاونة مع المبادرة الفرنسية، على غرار الإمارات العربية المتحدة ومصر، ولم تُدرَج على لائحة الدول الداعمة لإحياء المبادرة الفرنسية بنسختها الجديدة، تجاه الأزمة اللبنانية. فبعد ستة أشهر على اطلاق هذه المبادرة، توسعت رقعة الاهتمام ومعها الدعم الغربي والعربي لها، كما في الولايات المتحدة الاميركية، إثر انتهاء الفترة الانتقالية التي عاشتها الإدارة الاميركية بين عهدين، وتسلّم الرئيس الديموقراطي جو بايدن مهماته في البيت الابيض في العشرين من كانون الثاني الماضي، وتجدّد الاتصالات بين واشنطن وباريس.
إلّا انّه وفي ظلّ هذه الصورة الواضحة التي لا تحمل أي لبس، أُعلن عن زيارة المسؤول القطري بفارق ساعات عن موعدها ومن دون اي تفاصيل، حتى في عهدة الدوائر المعنية في لبنان، في قصر بعبدا كما في عين التينة والسرايا الحكومية. وهو ما سمح ببناء بعض التوقعات غير المبنية على اي معطى، الى ان جاءت الزيارة القصيرة والسريعة، بكل ما رافقها من لقاءات لدقائق معدودة مع المسؤولين الكبار، فلم ينتج منها سوى التذكير بما قدّمته قطر من مساعدات فورية لمواجهة كورونا وتداعيات انفجار المرفأ.
وفي الوقت الذي استذكر اللبنانيون دور قطر عام 2008، وما رافق دعوتها الى لقاء «الدوحة» الذي بُني على تداعيات أحداث 8 ايار التي شهدتها بيروت، اكتشفوا انّ ما من شيء يوحي بتلك المرحلة. فالأزمة القائمة اليوم أكثر تشعباً وتعقيداً. ففي تلك المرحلة أُجريت بعض التعديلات التي لم تلامس الدستور، بمقدار ما أرست نوعاً من الأعراف التي حكمت الفترة التي أعقبت انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وما تركته من تراجع لحدّة الأزمة الأمنية ومعها الاقتصادية والإعمارية الناجمة عن استمرار مواجهة آثار حرب تموز 2006 المدمّرة، وما انتهت اليه ورشة الإعمار التي شاركت فيها قطر ومعها مجموعة من دول الخليج العربي، لإعادة بناء ما تهدّم من بنى تحتية وأحياء سكنية على مساحة لبنان من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال، بما فيها من منشآت كهربائية وجسور، هذا عدا عن المكرّمات المالية التي وُضعت في عهدة قيادات سياسية وحزبية، شاركت في عمليات اغاثة النازحين اللبنانيين في قلب بلادهم.
وعليه، لم يكن للعودة الى تلك الحقبة وإجراء اي مقارنة أي حاجة، فما يجري اليوم مختلف تماماً عنها، ولا يشبه تلك الفترة بشيء. فالأزمة القائمة حالياً تختلف على كل المستويات الداخلية كما الاقليمية والدولية. فمجموعة الأزمات المتشابكة والمتناسلة، وضعت لبنان في اصعب الظروف، نتيجة التعقيدات القائمة، وهو ما عجزت عن مقاربته المبادرة الفرنسية التي انطلقت قبل ستة اشهر، وشهدت معوقات وعراقيل أفرغت معظم ما قالت به من خطوات وتجاوزت كل المِهَل تقريباً.
ففي الوقت الذي كان من المفترض ان يكون لبنان قد دخل مع مطلع السنة الجديدة مرحلة التعافي السياسي والاقتصادي والنقدي في آخر المطاف الذي كان يجب ان يبدأ بتشكيل «حكومة المهمّة» برئاسة مصطفى اديب، فقد تبدّلت المراحل وتغيّرت المحطات، ولم تُشكّل تلك الحكومة التي كان عليها اتخاذ الخطوات الإصلاحية في القطاعات الكبرى المنهارة والمتعثرة، كما قالت به «خريطة الطريق» الفرنسية. ولكن ما حصل، كان ان عجز اللبنانيون عن بناء اولى الخطوات التي تمّ الاتفاق عليها بين من تحلّقوا على «طاولة قصر الصنوبر» التي ادارها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون شخصياً في 2 ايلول الماضي .
وتزامناً مع انهيار الوضع الاقتصادي والأمني وازدياد حجم الأزمات المتعدّدة، جاءت الزيارة القطرية ـ رغم عدم دخولها مباشرة في الحلقة المحيطة بالمبادرة الفرنسية ـ لتؤكّد الموقف الدولي الجامع مما يجري في لبنان، فلم يكن ضرورياً ان تكون الدوحة في صلب تلك المبادرة «المتحورة»، ولكنها تناغمت معها، فعبّر الوزير القطري بكل صراحة وبعبارات مختصرة عمّا التزم به المجتمع الدولي كاملاً، والذي ربط كل الحلول المتوقعة والمخارج المقبولة بما تعهّد به اللبنانيون من خطوات لم ترَ النور حتى اليوم.
ولذلك، حافظت الزيارة على طابعها السريع، فاقتصرت لقاءات الوزير القطري مع المسؤولين اللبنانيين جميعاً بساعات قليلة، امضى معظمها على الطرق، متنقلاً بين بعبدا وعين التينة والسرايا الحكومية، قبل ان ينصرف الى بعض اللقاءات الخاصة التي عقدها في بيروت، وبقيت طي الكتمان، ولم يتسرّب منها سوى اللقاء الذي جمعه برئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، الذي عُدّ استكمالاً للقاء بعبدا «المختصر» مع رئيس الجمهورية، من دون ان يتسرّب منه اي معلومة تستحق التوقف عندها.
وإلى هذه المعطيات، فقد اعتبرت مصادر مطلعة على ما دار في الاجتماعات المقفلة، انّ ما قاله الوزير القطري في مؤتمره الصحافي من منصّة بعبدا، فاض عمّا قاله خلالها. فهو لم يدخل في كثير من التفاصيل، وقارب الملفات المطروحة بعناوينها الكبرى سياسياً واقتصادياً ومالياً، ورهن ما يمكن ان تقوم به دولته في المرحلة التي تلي تشكيل الحكومة الجديدة. كما انّه ربط مسبقاً بين اي هبة او مساعدة قطرية، خارج ما قدّمته من مستشفيات ميدانية وتعهدات بإعادة بناء مستشفى الكرنتينا الحكومي وترميم عدد من المدارس والمستشفيات الخاصة، في نطاق ما دمّره انفجار المرفأ، وفي مواجهة جائحة كورونا، بآلية جديدة للعمل في لبنان، خارج اطار سياسة المكرّمات والودائع المالية التي يمكن ان تُستثمر في غير اهدافها وهدر اموالها، في مسارات يعرفها القطريون ومعهم الدول والمؤسسات المانحة التي فضّلت التعاطي حتى في الجوانب الانسانية من الأزمة، مع الجيش اللبناني والصليب الاحمر وهيئات المجتمع المدني، بآلية صارمة من المراقبة والتشدّد في طريقة صرف الاموال، للتأكّد من وصولها الى من يستحقها.
على هذه الخلفيات، عبرت الزيارة القطرية كـ «نسمة» ديبلوماسية وسياسية لا يُبنى عليها في السياسة الآنية كثيراً، لكن معانيها البعيدة المدى كادت تنضح بعدم ثقة الدوحة بالسلطة واركانها في لبنان، وهي ما زالت في مرحلة ترميم علاقاتها بجيرانها الاربعة، ولا تريد التوسع مجدّداً في الازمات الدولية، من دون ان تلغي حضورها السياسي والديبلوماسي ولو بنحو عابر.