بقلم : جورج شاهين
بعيداً من الترددات السياسية للادّعاء على الرئيس حسان دياب، اياً كان مداها المتوقع، ليس من المنطق ان يُقدم المحقق العدلي في جريمة انفجار المرفأ القاضي فادي صوان أن يدّعي عليه ومجموعة الوزراء، من دون ان تتكوّن لديه الشبهة الكافية. فالقانون قال كلمة لا رجعة فيها عن كيفية ملاحقة رئيس حكومة او وزير خارج المجلس الاعلى لمحاكمته. وعليه، ما هي الظروف التي دفعت الى هذه الخطوة؟ وما هي حقوق رئيس الحكومة؟
بعد يوم واحد على جلسة مجلس الوزراء الأخيرة لحكومة «مواجهة التحدّيات» في العاشر من آب الماضي، التي شهدت بدايتها إحالة جريمة انفجار المرفأ الى المجلس العدلي، وانتهت باستقالة رئيسها، وافق مجلس القضاء الأعلى على الإقتراح الأخير الذي تقدّمت به وزيرة العدل في حكومة تصريف الاعمال ماري كلود نجم، بتعيين قاضي التحقيق العسكري الاول بالإنابة فادي صوان محققاً عدلياً في الجريمة. وفي اليوم التالي، تسلّم صوان الملف بما فيه من التحقيقات الاولية التي وضعها القضاء والضابطة العدلية بما فيها الموقوفون الـ19 في القضية.
فكما بالنسبة الى الجرائم الكبرى، أُحيلت جريمة المرفأ الى المجلس العدلي، في خطوة وصفت بأنّها «اقل الواجب» في التعاطي مع جريمة لم يشهد لبنان مثيلاً لها، وعُدّت الثانية او الثالثة بحجمها ونتائجها عالمياً، بشكل لا يرقى اليه الشك. فالتاريخ لم يشهد على جريمة من هذا النوع إلّا نادراً وفي بعض المدن والمصانع الكيماوية وأحد المرافئ في العالم. فما ادّت اليه من نكبة جعلتها في مقدّم الجرائم التي تناولتها وسائل الاعلام الدولية على انّها «ميني هيروشيما»، وهو ما جعلها في عهدة محكمة استثنائية كما هو المجلس العدلي.
وقياساً على هذه المواصفات والمعايير القانونية والدستورية، كان لا بدّ من ان يكون المحقق العدلي في مواجهة الكثير من المصاعب المتوقعة، ليس على المستوى الانساني فحسب، انما على المستوى القضائي. فالعالم ارتجف لما خلّفته الجريمة من كوارث، واهتز الضمير العالمي لهولها، ففك الحصار الاقتصادي والنقدي المضروب على اركان السلطة في لبنان، ليتقدّم الواجب الإنساني على كل العوامل السياسية والاقتصادية الأخرى التي استجرها اهل السلطة على لبنان. فسقط جزء من العقوبات المختلفة والمقاطعة الديبلوماسية والسياسية غير المسبوقة في تاريخ لبنان، الذي عرف كيف يحافظ في اسوأ الظروف التي رافقت حروب الغرباء على ارض لبنان على افضل مستوى من علاقاته الخارجية، سواء مع العالم العربي او الغربي على السواء.
على هذه القواعد، وفي ضوء التطورات المأساوية، وقبل ان يجف دم الضحايا الذين قُتلوا في ساحة النكبة في العديد من احياء بيروت ومن مختلف الجنسيات اللبنانية والعربية والغربية، وقبل رفع الردم الذي غطّى المرفأ ومحيطه، استمع المحقق العدلي، وفي الثالث من ايلول، الى رئيس حكومة تصريف الاعمال الدكتور حسان دياب كشاهد، في وقت كان فيه يواصل الاستماع الى الموقوفين ومن بينهم المسؤولون من الوزراء السابقين وكبار موظفي الجمارك وقادة الاجهزة العسكرية والامنية المتواجدين في المرفأ، وكل من له علاقة بإدارة منشآته ادارياً ومالياً، كونه من البوابات الرئيسية للبنان على العالم.
كل ذلك كان يجري وسط سقوط مسلسل الوعود التي قطعتها الحكومة بإنجاز التحقيق في الجريمة خلال خمسة ايام، فعبرت الاسابيع والأشهر الأربعة من دون ان يتوصل المحقق العدلي الى تقديم اي إشارة الى إمكان التوصل الى «القرار الاتهامي» بصفتيه المحقق والهيئة الاتهامية في آن. كما انّه ابقى على الموقوفين من عسكريين واداريين قيد التوقيف، الى ان انتقل الى مرحلة مخاطبة مجلس النواب، في الرابع والعشرين من الشهر الماضي، عندما بلغت قناعته مرحلة طلب فيها مساندته بـ «اتخاذ ما يراه مناسباً بشأن مسؤولية بعض الوزراء عن إهمال ساهم في وقوع انفجار المرفأ». ولفت في الرسالة إلى «أنّ التحقيقات التي أجراها مع وزراء حاليين وسابقين، كشفت عن شبهات حول مسؤوليتهم وتقصيرهم».
قيل يومها انّ صوان اراد «وضع مجلس النواب أمام مسؤولياته، لأنّه يقع على عاتقه اتخاذ الإجراء المناسب». خصوصاً أن ليس من صلاحيات القضاء العدلي محاكمة الوزراء، بل هذا الأمر من اختصاص المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء. ولكن، مراجع قضائية تمتلك الخبرة الكافية في التعاطي مع مثل هذه القضية، اعتبرت انّ صوان اخطأ في خطوته هذه في شكلها ومضمونها. إذ كان عليه ان يخاطب المجلس عبر النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات ووزيرة العدل ماري كلود نجم، لكنه لم يفعل ربما لشكّه بعدم قبولهما القيام بهذه الخطوة لأكثر من سبب لم يكشف عنه، لكنها قد تكون مهمة وبالغة الدقّة. ولذلك اضافت المراجع عينها، انّه لم يكن لصوان ان يُقدم على خطوته النيابية هذه، بل كان عليه ان يقوم بما قام به أمس الأول بالإدعاء مباشرة على من ادّعى عليهم، ولا ضرورة لمثل هذه الرسالة، وهي خطوة «مشروعة لا بدّ منها بكل المعايير القانونية والقضائية والدستورية».
وتضيف المراجع عينها، انّه ليس لدى رئيس الحكومة ولا الوزير اي حصانة مثل النائب، بل لديهما «إمتياز»، فهم يُحاكمون أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء «إن كان الجرم خيانة عظمى او إخلالاً بالموجبات الدستورية الملقاة على عاتقهم» فقط دون غيرها، وهو ليس متوفراً في الحالة القائمة. وعليه، فإنّ من حق صوان ايضاً ان يحتفظ بالأدلة التي تدين رئيس الحكومة والوزراء المدّعى عليهم الى حين اصدار «القرار الإتهامي» الذي سيضطر فيه الى تقديم «الوصف الحقيقي للجريمة، ويحدّد فيه مسؤولية المدانين وما يثبت ذلك بالقرائن التي لا شك فيها».
وعليه، وبعدما رفض دياب استقبال صوان مرة اخرى - رؤساء السلطات لا يحضرون امام المحقق العدلي، وهو من يحضر الى مقرّاتهم للاستماع الى افادتهم كشهود او متهمين فسيان-، وبعدما رفض الوزراء المدّعى عليهم المثول امامه، لا يمنع المحقق العدلي - كما تؤكّد المراجع القضائية - من تسطير ذلك، والإشارة اليه في «قراره الاتهامي»، وان حضروا فلهم حقوق ابرزها «الحق بالصمت»، وهو ما كان يراهن عليه البعض، قبل موقف دار الفتوى ورؤساء الحكومات السابقين وزيارة الرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة سعد الحريري الى السرايا متضامناً مع دياب. ذلك انّ ما حصل نقل الملف من مكان «قضائي» و»قانوني» الى الساحة «السياسية»، شاء من شاء وابى من ابى. من دون القدرة على استكشاف المرحلة المقبلة من اليوم. وما سيكون عليه موقف المحقق العدلي. فهو يمتلك كل الصلاحيات للتحرك الى مدى يضمن انجاز المهمة المكلّف بها. ولذلك، ما علينا سوى انتظار ما يمكن ان تؤدي اليه التطورات في الساعات المقبلة، فلربما تنحو نحو ما هو اخطر بكثير مما هي عليه القضية اليوم.