المثقف وتغيّر الوظيفة

المثقف وتغيّر الوظيفة

المثقف وتغيّر الوظيفة

 لبنان اليوم -

المثقف وتغيّر الوظيفة

بقلم: د. آمال موسى

يمكن القول افتراضاً أو واقعاً إنَّ المثقف اليوم في كل العالم يعرف لحظة ارتباك على مستوى تحديد وظيفته بشكلٍ واضحٍ يكشف عن هضمٍ يسيرٍ لدوره في المجتمع وفي هذه اللحظة التاريخية تحديداً. ولا تفوتنا الإشارة إلى أنَّ تاريخ وظيفة المثقف ليس خطّياً، حيث إنَّ مضمون هذه الوظيفة شكّل موضوعاً للتفكير حتى وإن كانت المحطات الكبرى لهذا التفكير ارتبطت بهبوب رياح الحداثة على المجتمعات التي عمَّقت من وظيفية المثقف في مجتمع ينتقل من مرحلة التقليدي إلى الحداثي، وما يعنيه ذلك من عمليات جراحية سوسيولوجية، ومخاضات وإجهاضات متتالية وولادات قيصرية ثقافياً وقيمياً.
ففي المجتمعات التقليدية كان العلماء ورجال الدين هم مَن يمثل النخبة، وتتميز وظيفتهم بالسكون تماماً كسكون المجتمع التقليدي المعروف بهيمنة المؤسسات الاجتماعية على الفرد وامتثال الفرد للمؤسسات.
ولكن خلال القرن الأخير توازى الحراك الإنساني في مختلف الحقول الاجتماعية بمراجعات عدة لوظيفة المثقف، لعل أشهرها تصور الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي حول المثقف العضوي، وهو تصور يربط بين الطبقة والمثقف، ويرى أن تحقيق الطبقة الاجتماعية لمطالبها وطموحاتها مشروط بوجود مثقف عضوي يعبّر عن هذه الطبقة ويمتلك قدرة الهيمنة الثقافية، بل إنَّ قدرة أي طبقة وآفاق هيمنتها على المجتمع تظهر في التمكن من تكوين مثقفين عضويين مرتبطين بها على نحو يشبه علاقة الإدغام.
وكما نلحظ فإنَّ تصور غرامشي المهم يركّز على العلاقة العضوية بين الطبقة الاجتماعية والمثقف. وهو تصور في حاجة إلى فك الارتباط العضوي بالطبقة لتشمل المجتمع بمختلف طبقاته.
أيضاً التوقف عند طبيعة وظيفة المُثقف من المهم أن يقترن بطيّ صفحة الانحرافات التي عرفتها هذه الوظيفة عبر التاريخ وبخاصة في المحطات المفصلية. ولا نقصد فقط ما أفسده الارتباط بين السياسي والمثقف الذي يكون على حساب المثقف وذلك تقريباً في كل التجارب في العالم. ذلك أن حتى الارتباط بالديني وأحياناً بالاقتصادي، يؤثر سلباً على وظيفة المثقف التي تمتاز بالنقدية المرتبطة بدورها بالحرية والتحرر من أي تبعية ومن أي مصلحة. وبناءً عليه فإنَّ تقدم المجتمعات وجعل قطار التنمية الشاملة فيها سريعاً وواثقاً إنَّما هما في علاقة عضوية بفكرة ألا يكون في علاقة تبعية لأي شيء يمكن أن يضرب بعمق المضمون الذي وضعه الفكر الحداثي لوظيفة المثقف والمتمثل في تعزيز كرامة الإنسان.
طبعاً تمثلاث وظيفة المثقف ليست جامدة بل إنَّها في تغيير وتفاعلية مع تجارب النخب والشعوب، فلا أحد يستطيع أن ينكر أنَّ النخبة المثقفة التي دافعت عن التحديث في البلدان العربية وأيضاً المثقفين الذين انتصروا للقومية العربية وساندوا قيادات سياسية، إنما هم كانوا تابعين بالمعنى السلبي، إذ يحصل أن تتقاطع التوجهات والمشاريع والرؤى. وكما نرى فإنَّ هذه كل الأطروحات التي تبنّت تصوراً بعينه لوظيفة المثقف، قابلة للنقاش.
ربما ما يلفت الانتباه ويستحق التفكير فيه بعمق هو أنَّ بعض المثقفين أصبحوا يتبنون منهج النخب السياسية وقيم السياسة التي على رأسها البراغماتية والانشغال بما هو كائن والإذعان له، أي إنَّنا أمام ظاهرة تطبيع مع طريقة تفكير الفاعل السياسي. وهذا خلل خطير لأنَّ الوظيفتين مختلفتان تماماً: فالسياسي مشغول بتدبر أمور الواقع وما هو كائن، في حين أنَّ شغل المثقف ما يجب أن يكون والحلم الإنساني.
إنَّ هذا الانحراف الخطير جداً في كيفية تمثل المثقف نفسه لوظيفته أدَّى إلى ظهور «مثقفين» يمتلكون مهارة التلاعب لغوياً، وهو ما ينطبق عليهم ما سماه باسكال بونيفاس، المفكر السياسي المعروف ومدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، «مثقفي التزييف»، وهم مثقفون أسهمت وسائل الإعلام السمعية البصرية في ظهورهم وشهرتهم، لأنَّهم يخدمون أجنداتها حتى من دون أن تطلب منهم ذلك.
من جهة أخرى روَّج البعض مؤخراً لمفهوم جديد هو «المثقف العمومي»، وهو تصور يتغذَّى من أطروحات يورغان هابرماس حول الفضاء العمومي والعقلانية التواصلية، أي ضرورة إخضاع العلاقات والنّقاشات ضمن الفضاء العمومي للعقلنة. المشكل بالنسبة إلى هذا الطرح أنَّنا لم نبلغ في الفضاء العربي الإسلامي شروط تأمين تواصلية عقلانية في المجال العمومي. ربما العنصر الإيجابي في صياغة هذا التصور للمثقف العمومي هو إعادة ربط الصلة بين وظيفة المثقف والفكر الحداثي، إذ لا معنى للفضاء العمومي طبقاً لمفهوم هابرماس خارج الحداثة والعقلانية، باعتبار أنَّ العقل يحتل مكانة مركزية في المنظومة القيمية الحداثية، ومن هذا التموقع للعقل تمت صياغة روابط عضوية بين العقل والحرية (شرط إبداع العقل) والنقد بوصفه القلب النابض للعقل.
أغلب الظن أنًّ أحسن وظيفة للمثقف اليوم في زمن العولمة وحقوق الإنسان والدعوة إلى الأنسنة، رغم كل المزالق والعراقيل، هي وظيفة حفظ كرامة الإنسان في المجتمع. فهل توجد وظيفة أسمى من أن يكون مشروع المثقف العربي مثلاً حفظ ماء وجه وإنسانية وكرامة الإنسان العربي وحمايته من تداعيات التوترات والفقر والفتن العرقية والطائفية؟

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المثقف وتغيّر الوظيفة المثقف وتغيّر الوظيفة



GMT 18:25 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الخاسر... الثاني من اليمين

GMT 18:10 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جمعية يافا ومهرجان الزيتون والرسائل العميقة

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:31 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 17:54 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
 لبنان اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد

GMT 21:25 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 06:17 2014 الثلاثاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

السيسي يجدد دماء المبادرة العربية

GMT 09:55 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

المغربي سعد لمجرد يُروج لأغنيته الجديدة "صفقة"

GMT 08:41 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

مكياج مناسب ليوم عيد الأم
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon