بقلم:د. آمال موسى
اليوم يصادف «يوم الصحة العالمي» ويتقاطع بدوره مع الذكرى 75 لتأسيس المنظمة العالمية للصحة.
الشعار المرفوع في هذا العام هو: «الصحة للجميع»، وهو شعار يتقاطع والهدف الذي من أجله تأسست المنظمة العالمية للصحة؛ أي أن يتم تكريس الحق في الصحة للجميع، بوصفه حقاً من حقوق الإنسان الأساسية.
طبعا البون بين الطموح والواقع شاسع جداً، والمسافة بين الواقع والمنطلقات الأولى كبيرة جداً أيضاً.
غير أنه لا شك في أن ارتفاع مأمول الحياة اليوم يمثل دليلاً قاطعاً على أن الإنسانية قطعت شوطاً كبيراً، وأصبح أمل الحياة أكبر، وهذا في حد ذاته نتاج المناعة الصحية والمنجز في مجال التلاقيح ونوعية الحياة. وصحيح كذلك أن ما باتت تُسمى بالأمراض المزمنة كانت في مرحلة من تاريخ الإنسان كفيلة بأن تكون سبباً للموت العاجل، ولكن العلم قهر أمراضاً عدة وحولها إلى أمراض مزمنة يتعايش معها الإنسان بالمتابعة وتناول الدواء.
كما أن حالات الموت عند الولادة تراجعت بشكل يسمح لنا بالقول إن المنجز في الصحة عالمياً له أثر إيجابي على حياة الناس وعلى علاقة الإنسان بالحياة.
فالمنجز لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من شأنه.
في مقابل ذلك، ورغم أن الحق في الصحة مكفول بالاتفاقيات الدولية والدساتير، فإنه على أرض الواقع ما زال الطريق طويلاً أمام بلوغ الصحة للجميع. ولعل تجربة جائحة «كورونا» والعدد الهائل من الأرواح التي خسرها المجتمعات دليل على أن هناك الكثير أمام الإنسانية مما يجب القيام به لم يُنجز بعد.
وبعيداً عن مثال «كورونا»، لا تزال أمراض عدة لا يوجد لها دواء، وأقصى ما تحقَّق اكتشاف أدوية للتعايش مع المرض؛ فمريض القلب يظل مريضاً بالقلب، والمصاب بداء السكري نفس الشيء، وغير ذلك. وهو ما يفيد بأن المنجز العلمي في مجال الصحة يفتقر إلى عدة حلول، وهناك تواصل للعجز أمام عدة أمراض، خصوصاً تلك التي تتصل بالمناعة، كالبهاق والثعلبة وغيرهما.
هذا على المستوى العلمي، من دون أن يمس ذلك بالانتصارات الكبيرة المتحققة في معالجة العقم وزرع الأعضاء... أما على المستوى الحقوقي، فإن الحق في الصحة التزمته الدول، وكان من المضامين الأساسية للدولة الاجتماعية. ويمكن القول إن الحق في الصحة اليوم في تراجع، باعتبار أن تراجع الوظيفة الاجتماعية للدول اليوم وهيمنة أنموذج الدولة الليبيرالية وخوصصة قطاعات الصحة قد جعلها تخضع ضرورة إلى شروط السوق وقيمه القاسية؛ فالصحة لمن يستطيع أن يدفع ثمن استشارة الطبيب، وثمن الدواء، وتكلفة إجراء العمليات.
وهذه الحقيقة أربكت مسار الحق في الصحة. بل إن مؤشرات الفقر والأزمات والبطالة في العالم مؤشرات مانعة للتمتع بالحق في الصحة للجميع. لذلك يبدو لنا أن المبدأ الذي من المهم أن يدافع عنه كل العالم، إذا ما أراد الصحة لأكثر عدد ممكن، أن تظل الدولة اجتماعية على الأقل في مجالي التربية والصحة، وأن يظل هذا الاستثناء مستمراً.
أيضاً هناك موضوع من المسكوت عنه لدى صناديق التغطية الصحية في مختلف أنحاء العالم، حيث إن قائمة الأدوية والتدخلات الطبيبة من ناحية تغطيتها تختلف من بلد إلى آخر، رغم أن المرض واحد، وهي من النقاط المهمة التي لا تخوض فيها المنظمة العالمية للصحة: فكل الأمراض يجب أن تخضع للتغطية الاجتماعية، أو على الأقل غالبيتها.
هناك مسألة أخرى تستحق الاشتغال عليها، والنضال من أجلها، وهي: كيف نضمن للفقراء والعاطلين عن العمل الذين يشتغلون في الاقتصاد الموازي الحق في الصحة؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تعني الاهتمام بملايين من الأشخاص خارج التغطية الصحية، ودون النفاذ إلى الخدمات الصحية، وهو سؤال حارق إذا ما تمعنا في الأرقام المفزعة للاجئين والفقراء...
في مثل هذا اليوم أيضاً من المهم أن تحث «منظمة الصحة العالمية» الدول على الاستثمار في الوقاية من الأمراض باعتبارها الأسلم والأقل تكلفة مقارنة بالتكلفة الباهظة للعلاج؛ فالاستثمار في الوقاية، وإن احتاج بدوره إلى مال، فإنه يظل الخيار الأفضل؛ سواء صحياً، أو من ناحية فوائد ذلك على عموم المجتمع، وفي المحافظة على المناعة العامة وعلى طاقات المواطنين وقوتهم، والصحة من أهم مواردها.
ونعتقد أن الفضاء العربي ودول العالم الثالث أكثر من غيرها مطلوب منها الاستثمار في الوقاية، والرهان على استراتيجيات اتصالية قوية وناجعة، مع العلم بأن الاستثمار في الوقاية يعني الاستثمار في الخبراء والتثقيف الصحي ووسائل الإعلام الجادة.
في الحقيقة، الصحة ليست للجميع، والحل في رفع التحديات وتسميتها تحدياً تحدياً.