بقلم:سام منسى
تتصاعد حدة الأزمة الأوكرانية التي تكاد تحجب كل ما عداها، بينما توحي أجواء المفاوضات الدائرة في فيينا بشأن العودة إلى الاتفاق النووي بقرب تصاعد الدخان الأبيض. يهلل العديد من المراقبين بأن خواتيمها السعيدة باتت وشيكة، باعتبار أن من مصلحة واشنطن تسريع وتيرتها، والتوصل إلى تسوية، لتتفرغ لمعالجة الوضع المتأزم المستجد في أوروبا، وتتجنب مواجهة ثلاثية مع روسيا والصين وإيران في آن واحد. وعززت هذه التوقعات الخطوة التي أقدمت عليها الإدارة الأميركية يوم الجمعة الماضي، حين بادرت إلى إعادة العمل بإعفاء الدول والشركات التي تشارك في برنامج إيران النووي المدني من العقوبات.
وعلى الرغم من أن ترحيب إيران بهذه الخطوة كان بارداً، أكد كبير المفاوضين الإيرانيين، علي باقري كني، أن بلاده اقتربت من التوصل إلى اتفاق في مفاوضات فيينا «أكثر من أي وقت مضى». وترافق هذا الموقف بليونة إيرانية ظهرت في تصريحات مسؤوليها، لجهة التراجع عن المطالبة برفع شامل وكامل للعقوبات كافة؛ لا سيما أن إيران لا تملك ترف تدلل طويل الأمد، وهي التي ينزف اقتصادها، وتخشى على تصدع نفوذها الإقليمي في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
فمنذ سقوط نظام صدام حسين لم يشهد النفوذ الإيراني في بغداد تراجعاً كالذي يشهده اليوم، بعد فشل قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني في إقناع مقتدى الصدر بتشكيل حكومة توافق، تضم «تحالف فتح» المدعوم من إيران، وإصرار الصدر على حكومة «أغلبية وطنية».
في لبنان؛ حيث اليد الطولى لـ«حزب الله» على الصعد كافة، ترتفع أصوات متنامية رافضة لهيمنة الحزب، ومطالبة برفع «الاحتلال الإيراني»، على الرغم من صولات وجولات الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، وما قاله مؤخراً من تحويل الحزب صواريخه إلى صواريخ دقيقة، وتصنيعه مُسيَّرات.
في اليمن، الحوثيون يخسرون في أكثر من موقع على الأرض. وفي سوريا، تَشاركها النفوذ مع روسيا يصعّب عليها الوصول إلى السيطرة المطلقة التي تنشدها.
إلى هذا، شهد الأسبوع الماضي تطورين يشيران إلى قرب التوصل إلى اتفاق: الأول هو إرسال إسرائيل رئيس الدائرة الاستراتيجية في وزارة الخارجية الإسرائيلية جوشوا زرقا إلى فيينا للقاء المفاوضين الأميركيين، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ انطلاق هذه المفاوضات. ويعزو البعض هذا التحرك إلى ارتفاع منسوب القلق لدى المسؤولين الإسرائيليين في الأيام الأخيرة من المحادثات، من أن تقدم الولايات المتحدة والقوى العالمية الأخرى المزيد من التنازلات التي ستحول الاتفاق النووي لعام 2015 إلى نسخة أسوأ مما كان عليه. وسبق لرئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بنيت خلال زيارته إلى البحرين أن وصف العودة إلى الاتفاق بأنها «خطأ استراتيجي».
التحرك الثاني هو احتدام الجدل في واشنطن حول الاتفاق النووي، وارتفاع الأصوات المعارضة لإحياء الاتفاقية التاريخية، وتحذير الجمهوريين والديمقراطيين المتشددين الرئيس جو بايدن من العودة إليها، ما قد يؤشر إلى أن التوصل إلى تسوية بات وشيكاً.
على الرغم من المعطيات السابقة، ثمة مؤشرات استراتيجية أخرى تلجم اندفاعة التفاؤل هذه. لا شك في أن الإدارة الأميركية ضنينة بسرعة التوصل إلى تسوية لأسباب عدة، منها الداخلي البحت ومنها الخارجي. داخلياً، هل يتمكن الرئيس بايدن من إتمام الصفقة اليوم قبل الغد، وبوقت أبعد ما يكون عن الانتخابات التشريعية المرتقبة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، ما قد يعرّض رصيده الشخصي وحزبه معاً للضرر؟ فهو لا يريد تأخير العودة إلى الاتفاق النووي إلى فترة قريبة من الانتخابات، لكي لا يدخلها وهو حامل لاتفاق يواجه معارضة شرسة من الجمهوريين، مشرعين وناخبين، ومعارضة من قسم من الديمقراطيين؛ لا سيما إذا بقي الاتفاق وفق الصيغة السابقة، أي اقتصر على الشأن النووي من دون أن يطال برنامج الصواريخ الإيراني وأنشطة طهران التوسعية خارج حدودها. خوض الانتخابات وذكرى الاتفاق نضرة، من شأنه تعريض الحزب الديمقراطي لخسارة مزدوجة في مجلسي الكونغرس، وهذه الوقائع ليست خافية عن إيران.
في المقابل، من المؤكد أن الكونغرس لن يبرم أي اتفاق مع إيران. فكيف السبيل لبايدن والحال هذه إلى إعطاء الضمانات لإيران بأن أي رئيس أميركي مقبل لن ينسحب منه، كما فعل دونالد ترمب؟
خارجياً، يصعب استبعاد تأثير حجم التوتر الكبير بين واشنطن وموسكو، على دور روسيا على طاولة مفاوضات فيينا، كطرف رئيس مع شريكه الصيني، وتأثيرهما معاً في تسهيل أو تعقيد مسار العودة إلى الاتفاق. في الواقع، لا يجوز تجاهل انعكاسات الأزمة الأوكرانية على هذا الملف واعتبارها غير موجودة، كما يصعب تصديق أن موسكو لن تستخدم مفاوضات فيينا للَي ذراع واشنطن، والدفع باتجاه تسوية لصالحها على الجبهة الأوكرانية. فلم يعد خافياً أن روسيا تستسيغ دوماً إدارة الأزمات، واعتماد التكتيك أكثر من الحلول المستدامة والمواقف الاستراتيجية؛ لا سيما أن مصالح موسكو النفطية والغازية تتطلب مناخات غير مستقرة أو غير هادئة. وظهرت بوادر تعطيل روسي محتمل مع لقاء المفاوض الروسي في فيينا، ميخائيل أوليانوف، بالموفد الإسرائيلي، مثيراً غضب إيران، وتصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأن الطريق أمام إعادة إحياء الاتفاق النووي ما زالت طويلة. وقدرة موسكو على التعطيل مرتبطة أيضاً بقدرتها على دفع شريكتها الصين إلى تعقيد مسار العودة، ودفع طهران إلى المزيد من التشدد.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أهمية مصالح إيران مع روسيا في المنطقة وخارجها، وإفادة كل طرف من الآخر في مواجهته مع الخصم الأهم، وهو الولايات المتحدة والغرب بعامة؛ لا سيما في هذه المرحلة التي تشهد تجاذبات حادة ومستجدة.
إن قراءة هذا المشهد تكذب توقعات سابقة بأن الحدث الأوكراني قد يعجل سير المفاوضات في فيينا؛ إذ يبدو أن المراوغة الروسية سوف تجعل المراوحة تستوطن المسرح الأوروبي، وتمدد للتوتر الأميركي الأوروبي الروسي المفتوح على احتمالات كثيرة.
يبقى أن الغائب الأكبر عن المفاوضات هو الشرق الأوسط، الأكثر تأثراً بنتائجها؛ خصوصاً أن الاتفاق سيحدد موقع إيران ودورها الجيوستراتيجي في المنطقة والعالم، وذلك على خلفية نجاح إيران بأن تصبح «دولة - عتبة» نووية، وسعيها في آن واحد إلى التوصل إلى الاتفاق، ورفع العقوبات، والقنبلة النووية، ومحافظتها في الوقت نفسه على تمددها في المنطقة.