بقلم:سام منسى
منذ اندلاع الانتفاضة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، طالب الكثير من مجموعات المعارضة في لبنان مراراً وتكراراً بإجراء انتخابات مبكرة، محمِّلين مسؤولية الأزمة للطبقة السياسية والأحزاب التقليدية التي هيمنت على البرلمان وتالياً الحكومة منذ تسعينات القرن الماضي. باتوا يتطلعون إلى الانتخابات المقبلة على أنها الوسيلة الوحيدة لإحداث تغيير سياسي عميق وشامل، والاحتمال الوحيد المتبقي لانتقال لبنان من وضعه الحالي المتدهور إلى مسار الإصلاح، لا سيما أن البرلمان الجديد سوف ينتخب رئيساً جديداً للجمهورية.
اليوم، تتجه الأنظار نحو انتخابات لبنان النيابية المقرر إجراؤها في 15 مايو (أيار) 2022. منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة عام 2018، شهدت البلاد انتفاضة وانهياراً اقتصادياً ومالياً غير مسبوق وجائحة كانت إدارتها سيئة وتفجيراً قتل المئات ودمر نصف العاصمة، وذروة هيمنة حزب مسلح عمرها أكثر من ربع قرن. الإشكالية الرئيسية التي تُطرح اليوم وسط الضجيج الذي تُحدثه الحملات الانتخابية واحتمالات توصل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي إلى توافق على خطة للإصلاح المالي والاقتصادي المطلوب، هي: كيف يمكن فصل الإصلاح الاقتصادي والسياسي عن النظام السياسي الاقتصادي الذي سوف ينبثق عنه؟
اللبنانيون بغالبيتهم، ساسة وزعماء ومواطنين، غارقون بالشأن الانتخابي كأنه الترياق لمشكلات وأزمات هذا البلد الكثيرة والمعقّدة والمزمنة. من الطبيعي أن تكون الانتخابات في دولة تعيش أوضاعاً عادية هي الحل للأزمات والمشكلات عبر تداول السلطة بين الأكثرية والأقلية. لكن في لبنان، معظم القوى السياسية المعارضة وبينها تلك التي تمثل المجتمع المدني تجهر بأن البلد محتل أو واقع تحت الوصاية أو مهيمَن عليه من «حزب الله» وبالتالي من إيران، ويقرُّون، أقله سراً، بأن أكثر الاحتمالات رجحاناً أن يحقق محور «حزب الله» وحلفاؤه غالبية كبيرة في البرلمان، وبأن نسبة أدنى من الثلثين قادرة على سن التشريعات ووضع السياسات واتخاذ القرارات المتعلقة بالقضايا الرئيسية كالتعيينات الإدارية والأمنية والدبلوماسية والموقف من الحروب الإقليمية ومسائل السياسة الخارجية الأخرى. والأخطر أن «حزب الله» سيحاول استخدام الأغلبية النيابية لإضفاء الشرعية على سلاحه وإجراء تغييرات دستورية لضمان سيطرته على المدى الطويل مثل المطالبة بنظام ثلاثي بين المسيحيين والسنة والشيعة، أي باختصار، الوصول إلى نظام سياسي للبلاد يتماشى مع شعارات هذا المحور الإقليمي الذي سبق لقادته أن أعلنوا مراراً عن خطوطه العريضة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة.
العجيب الغريب ليس حماسة هذا المحور لإجراء الانتخابات بقدر حماسة المعارضين له وتبجحهم بأنهم قادرون على التغيير المنشود بمجرد فوزهم، علماً بأنه يستحيل عملياً الوصول إلى هذه الغاية لأسباب كثيرة يتصدرها قانون الانتخاب الهجين والعَصيّ على الفهم من غالبية الناخبين، والذي فُصّل على قياس الطبقة السياسية الحاكمة كجزء من مجموعة «عدة الشغل» التي تستخدمها النخب السياسية لتعزيز سلطتها. ما جعل هذا القانون جذاباً للسياسيين هو أنه يمكن وصفه ظاهرياً بأنه قانون التمثيل النسبي، لكنّ الآليات التي تَضمنها تجعل منه فعلياً قانون الصوت الواحد لرجل واحد ضمن النظام الأكثري مع تمثيل نسبي رمزي. إلى جانب قانون الانتخاب يبرز وبشكل نافر تشتت قوى المعارضة وتشرذمها، لا سيما تلك التي توصف بالقوى السيادية، وسط انقسام القوى السنية والمسيحية منها؛ السنية جراء عزوف رئيس الحكومة السابق سعد الحريري وتياره السياسي عن خوض الانتخابات، الأمر الذي سيسفر عن فوز شخصيات سنية يسهل استقطابها من تحالف «حزب الله»، والمسيحيون المنقسمون أساساً بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» و«الكتائب» ومستقلين، فحالهم حال السنة إن لم يكن أسوأ بكثير مع تشكيل التيار العوني غطاء «حزب الله» المسيحي الرئيسي إلى جانب رئيس «تيار المردة» الماروني سليمان فرنجية، حليف نظام بشار الأسد. وعن هيئات المجتمع المدني وتلك التي انبثقت عن انتفاضة «17 تشرين» فحالها كارثيٌّ لأنها متباينة ومختلفة فيما بينها من جهة ومع أحزاب المعارضة التقليدية من جهة أخرى، ما سيؤدي إلى تشتت الأصوات المعارضة لصالح محور الحزب وحلفائه.
وسط هذه المشهدية، لا شيء يبرر حماسة المعارضة بشقيها لهذه الانتخابات في مثل الوضع التاريخي الذي يمر به لبنان، مع عدم حصولها شبه الأكيد على غالبية مؤثرة في البرلمان. يبدو أنها لم تتعلم من تجارب الماضي القريب والبعيد ولم تستوعب بعد نتائج ما ارتكبته من خطايا مميتة مثل تفاهم «القوات اللبنانية» مع التيار العوني سنة 2015، متناسيةً تجربتها مع العماد ميشال عون سنة 1988 يوم تحالفا ضد الرئيس أمين الجميل إبان نهاية ولايته ليخوضا بعد ذلك حرباً خلّفت خسائر بشرية ومادية جسيمة وثبّتت الاحتلال السوري للبنان وما جرّه عليهما وعلى البلاد من مآسٍ وخراب. ولا ننسى اتفاق الدوحة 2008 والقضاء بعده على أهم حدث سياسي في تاريخ لبنان الحديث وهي حركة «14 آذار» السيادية التي جمعت بين المسيحيين والسنة والدروز وقسم من الشيعة، وقانون الانتخاب المفخخ والتسوية الرئاسية وانتخاب العماد عون، مرشح الحزب، إلى سدة الرئاسة سنة 2016 بعد تعطيل دام أكثر من سنتين، والذي عدّته لاحقاً دول عربية وغربية هيمنة لقوى «8 آذار» وحلفائها على الحكم في لبنان لصالح محور إيران، وأدى إلى تخريب يصعب إصلاحه لعلاقات لبنان مع الدول العربية خصوصاً الخليجية منها.
كل هذه المسيرة المخيبة والمؤلمة لن تعوض عنها بضعة مقاعد في البرلمان لا تسمن ولا تغني، بل سوف تُحوّل هؤلاء إلى لاعبين هامشيين في العملية السياسية يؤدون دور شهود الزور ويقدمون مجاناً، بخوضهم الانتخابات، صكَّ براءة لـ«حزب الله» أمام المجتمع الدولي.
أما حماسة المجتمع الدولي فلعلها نتيجة اليأس من لبنان ومن إمكانية عودته ككيان مستقل عن هيمنة إيران وسطوتها بسبب ما ذكرناه من تشتت القوى السيادية والتغييرية محلياً، والرغبة في الاستقرار الذي يحتاج إلى قوة نافذة تشكل محاور عند الحاجة، ويبدو بنظرهم أن «حزب الله» يوفرها. أما إقليمياً فالظاهر أن البوصلة تتجه إلى تفاهمات مع إيران إذا تم التوصل إلى نتائج إيجابية في محادثات فيينا، بخاصة بالنسبة لنفوذها في دول المشرق، لبنان وسوريا والعراق. دولياً، بات لبنان في أسفل لائحة اهتمامات المجتمع الدولي وتراجع أكثر بسبب الحدث الأوكراني وما أفرزه من توتر في العلاقات الدولية. كل ذلك يعزز ما يتردد عن زيارة للبابا فرنسيس إلى لبنان يسعى التيار العوني إلى تجييرها لصالحه وتوظيفها في خانة نتائج الانتخابات وتكريس هيمنة محور «حزب الله»، وكذلك المعلومات عن مسعى فرنسي لجمع اللبنانيين بغية التوصل إلى تسوية معروفة نتائجها سلفاً في ظل ميزان القوة الحالي. كل ما سبق يُعيدنا إلى البداية: أيُّ إصلاح سياسي واقتصادي سوف ينبثق من نظام «حزب الله» المقبل المتوقع للبنان؟ وأين اتفاق الطائف من كل ذلك؟ «حزب الله» يخطف النظام لأسباب آيديولوجية، فيما يستغله السياسيون الآخرون لمصالح سياسية محلية واقتصادية ضيقة.
لن تنفع التمنيات والحسرات وكلمة لو... حبّذا لو أن الجهود والنفقات المبذولة على انتخابات معروفة نتائجها سلفاً توظَّف لتمكين معارضة مدنية سلمية قادرة على التغيير السلمي. شد أحزمة الأمان ضرورة، وعسى أن ينجو لبنان من نتائج هذه الانتخابات وتداعياتها.