بقلم:سام منسى
تصادف اليوم ذكرى انتفاضة 14 مارس (آذار) 2005 اللبنانية التي بدأت بمظاهرة مليونية في بيروت إثر اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، شعارها السيادة والاستقلال والحقيقة. وجاءت أيضاً رداً على مظاهرة حشدت في 8 مارس مئات الآلاف، نظمتها الأحزاب الحليفة لسوريا وعلى رأسها «حزب الله» لشكرها على ما قدمته للبنان والمقاومة.
في 14 مارس 2022، لم يبقَ من حركة «14 آذار» إلا الذكرى، مع تشلع أطرافها، على اختلاف أحياناً واتفاق أحياناً أخرى، مجمعين على أمر واحد هو أن هذا الحراك الاستثنائي في تاريخ لبنان الحديث يستحيل بعثه من جديد.
مسار تراجعي لهذه الحركة حمل منذ سنة 2005 مآسي وخلافات أدت إلى المشهد الحالي المزري للسياسة في لبنان، ومن ضمنه تشتت ما يسمى القوى «الاستقلالية السيادية». لعلها أنهكت جراء مسلسل اغتيالات ممنهج لشخصياتها بدأ في يونيو (حزيران) من العام نفسه، وما يزال مستمراً. أنهكتها ايضاً «حرب تموز» 2006 مع إسرائيل التي انتهت بنتيجة «لو كنت أعلم» لحسن نصر الله، وغزوة «حزب الله» لبيروت والجبل سنة 2008 ومآثر الديمقراطية التوافقية بعد تسوية الدوحة التي تلتها، وتسوية 2016 التي جاءت بمرشح «حزب الله» رئيساً للجمهورية، إلى نهب ودائع الناس في المصارف والانهيار المالي والتفجير المزلزل لمرفأ بيروت في 2020.
سقوط مدو لربيع عربي لبناني كان سباقاً في بداياته ونهاياته.
شهر مارس 2011 شهد أيضاً اندلاع الثورة في سوريا من درعا يوم 15 منه، والوثبة الثانية يوم 18 من دمشق ومدن سورية أخرى تحت شعار «جمعة الكرامة». مظاهرات حلمت بتكرار نجاحات اقتلاع النظام الحاكم الذي حققته ثورات مماثلة في تونس ومصر وليبيا واليمن. لكن الثورة السورية أُجهضت وتحولت إلى محرقة للشعب السوري وتواجه تجديد الاستبداد بالتمديد لحكم بشار الأسد لولاية جديدة على رأس دولة مفككة ومحتلة، تتنازعها خمس دول وبقايا نظامه.
انتفاضة «14 آذار» اللبنانية أخرجت الجيش السوري من لبنان وحققت ما سمي آنذاك الاستقلال الثاني، استقلال ما لبث أن هوى تحت سطوة إيرانية بديلة من السطوة الأسدية، وكانت أشد إيلاماً منها لأنها استهدفت بالتسلل بداية والمجاهرة لاحقاً وبأيد محلية هوية لبنان والأسس التي قام عليها. أما الثورة السورية، فتكالبت عليها قوى الاستبداد الداخلية والخارجية، واستحالت اقتتالاً داخلياً وإقليمياً ودولياً مسح الكيان والدولة التي عرفناها عن الخريطة السياسية، وخلّف مئات الآلاف من القتلى وملايين النازحين في الداخل والخارج ودماراً غير مسبوق.
قدر البلدين الوقوع فريسة قوى مستبدة مؤدلجة خارجة عن القانون والمجتمع الدولي. هذا الاحتراب الأهلي وما استتبعه من تدخل وهيمنة خارجية سياسية وعسكرية لم يقتصر على سوريا ولبنان، بل عاشته وما زالت كل من ليبيا واليمن ونسبياً العراق، وله سمات مشتركة مع ما حصل في جورجيا وكازاخستان وبيلاروسيا وما يجري اليوم في أوكرانيا.
تتزامن الذكرى السابعة عشرة للانتفاضة اللبنانية والحادية عشرة للثورة السورية مع أزمة أوكرانيا، وهي أعقد وأخطر أزمة يمر بها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وسيصعب على البلدين المجهض حراكهما والمتداخلين على أكثر من صعيد الهرب مما قد تحمله رياح هذه الأزمة العالمية وهما فاقدان لمقومات الدولة العادية من سيادة واستقلال وحرية قرار، بعد أن أصبحا تحت هيمنة مزدوجة: استقواء وانتفاخ الشرق وتخاذل وتردد الغرب.
لبنان الذي تهاوت انتفاضته يشهد اليوم فراغاً وخواء سياسياً مخيفاً، في وقت يواجه فيه استحقاقين انتخابيين؛ الأول تشريعي والثاني رئاسي، قد يتوقف على نتائجهما مصيره وهويته. التوقعات المرجحة أن تكون الغلبة لصالح الأحزاب المسماة «قوى الممانعة» والمعروفة بمناهضتها للغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة، ما سيرسخ جرّه إلى معسكر يدور في فلك إيران ومصالح تحالفها مع روسيا والصين، في مرحلة من التجاذب الحاد في العلاقات الدولية بسبب الحرب الأوكرانية المفتوحة على كل الاحتمالات والتي لا تحتمل المواقف الحيادية أو الرمادية.
ولا يغيب في هذا السياق موقف إسرائيل من هذه الحرب، فهي إذا كانت اليوم مترددة، فلن تلبث أن تلتحق عن قناعة أو مصلحة بالمعسكر الغربي وسط توجسها من نجاح مفوضات فيينا المعلقة راهناً أو من الأخطار المستجدة في حال تعثرها. وفي ظل احتدام الصراع بين واشنطن وموسكو، سيرتفع حكماً منسوب المخاطر الأمنية والسياسية والاقتصادية على لبنان، لأن أي خطوة ناقصة أو خطأ غير مقصود قد يشعل حرباً، لا سيما مع تصاعد وتيرة التهديدات بين «حزب الله» وإسرائيل على خلفية إشهار الحزب امتلاكه لصواريخ دقيقة وتصنيعه للمسيّرات، وكلها بمثابة قنابل موقوتة جاهزة للانفجار في أي لحظة.
أما سوريا وعلى وقع الحرب في أوكرانيا، فباتت عودة العنف إلى ساحتها أمراً محتملاً وعلى مستويين؛ الأول قد تستدعيه محاولات أطراف داخلية وخارجية ممارسة ضغوط متنوعة على موسكو التي ستنشغل ولفترة طويلة في الحرب الأوكرانية كما في احتواء نتائج العقوبات الاقتصادية الغربية عليها، ما قد يؤدي إلى تراجع دورها في سوريا لصالح الشريك والحليف الإيراني. أما المستوى الثاني فهو نتيجة للأول، ومفاده التمدد الإيراني بسبب هذا التراجع المحتمل، ما سيدفع إسرائيل إلى تكثيف عملياتها العسكرية ضد الأهداف الإيرانية فيما يمكن أن يتحول إلى حرب شاملة تمتد إلى لبنان وربما أبعد.
هذا في الأمن. أما في السياسة، فيبدو أن ما يُرسم لمستقبل البلدين ينحو باتجاه تثبيت الأمر الواقع مع بعض الإجراءات التجميلية والمهدئات التي تدغدغ مشاعر البعض في كلا البلدين، لا سيما أصحاب مشروع تحالف الأقليات. ويتقاطع ذلك مع تسريبات الإعلام المتكررة عن سعي الفاتيكان بدعم فرنسا ودول أخرى إلى عقد مؤتمر مسيحي - إسلامي في سوريا، وعزم البابا فرنسيس على زيارة دمشق.
في الوقت عينه، نقل الإعلام عن وزير خارجية الفاتيكان، بول ريتشارد غالاغير، إشادته أثناء لقائه بمسؤول في «حزب الله» بأدوار الحزب محلياً وإقليمياً، هذا إلى تقارير إعلامية بشأن سعي الفاتيكان للتوصل بدعم دولي إلى «عقد اجتماعي» جديد في لبنان في تكرار لدعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. هل تعني هذه المعلومات تسليم الغرب بهيمنة إيران على بعض دول المشرق لا سيما لبنان وسوريا، خصوصاً إذا قُدّر النجاح لمفاوضات فيينا؟
إن استخفاف الغرب وعلى رأسه واشنطن بالانتفاضات الشعبية في لبنان وسوريا والسماح بإجهاضها وغض الطرف عن جريمتي قتل هوية لبنان وتمزيق الشعب السوري وإدارته الظهر لحلفائه في المنطقة، أظهرت قصر نظر لا يليق بقوى عظمى.
أهملت واشنطن المنطقة العربية متذرعة بالخطر الآتي من الشرق متمثلاً في الصين وروسيا، وأن لا خوف على أمن إسرائيل. إهمالها المشرق شد أزر الصين وروسيا ومكنهما من التوغل فيه وعزز غرورهما فكانت مبادرة الحزام والطريق لدى الصين وحلم إقامة الإمبراطورية الروسية الثالثة بعد روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي لدى موسكو. وها هي إسرائيل تحصد ما زرعته وباتت محاطة أكثر من أي وقت مضى بتهديدات شتى، كما أثبتت الحرب الأوكرانية أن الحاجة إلى الحلفاء في المنطقة وإلى نفط الخليج لم تنتفِ بعد.
اعتقدت واشنطن أن لبنان وسوريا فاصلتان على خريطة السياسة الدولية لا تستحقان اهتمامها، لكن الوقائع أكدت أنهما كانا بالنسبة إليها الخاصرة الرخوة التي عندما اخترقت وتركت في عهدة قوى الاستبداد، أوقدت نارهم فتغوّلوا. كما المسيّرات الصغيرة التي باتت تهدد القبب الحديدية. تجاهل الغرب لشعوب المنطقة قد يفتح عليه باب جهنم.