بقلم : سام منسى
أمس (الأحد)، مرت الذكرى الثانية لحراك «17 تشرين» في لبنان، وسط انقسام دموي خطير على مستوى الشارع والوسط السياسي على خلفية التحقيق بقضية تفجير مرفأ بيروت، ومطالبة الثنائي الشيعي؛ حركة أمل وحزب الله، بتنحية قاضي التحقيق طارق البيطار، بعد تنحية سلفه فادي صوان. ولهذه الغاية، نظم الثنائي الشيعي في 14 أكتوبر (تشرين الأول)، وقفة احتجاجية تطالب بإقصاء البيطار، قيل إنها سلمية، لكنها انتهت إلى اشتباكات بين شارعين وسقوط 6 قتلى من جهة واحدة وعدد من الجرحى.
يوم 14 أكتوبر هذا سيبقى راسخاً في ذهن اللبنانيين بأنه اليوم الذي أطلقت فيه رصاصة الرحمة على ما سمي «ثورة 17 تشرين» التي دخلت قبل هذا التاريخ بنوع من الموت السريري لأسباب كثيرة لسنا بصدد بحثها في هذه المساحة.
فهل انتفاضة «17 تشرين» كانت بالفعل بذور ثورة على الحال التي وصلت إليها البلاد؟ الإجابة اليوم هي قطعاً لا. ما جرى أقرب إلى انتفاضة في مرحلة معينة جراء تراكم مروحة كبيرة من المشاكل تعود لأكثر من 50 عاماً. لن يغيب عنا أن اللبنانيين انتفضوا بشكل غير مسبوق في 14 مارس (آذار) 2005، مطالبين بخروج الجيش السوري بعد تحميلهم النظام السوري وحلفاءه مسؤولية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. حراك «17 تشرين» لا سيما في تظاهرة 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، حاول محاكاة تظاهرة «14 آذار»، إنما وللأسف الشديد أجهض الحراكان وعادت القوى السياسية الحاكمة والمعارضة معاً إلى لغة السلاح. شرارة حدث يوم 14 أكتوبر هي طبعاً الاستفزازات المتغطرسة المعهودة لحزب الله وحلفائه، لكن يصعب أيضاً تحديد الجهة المسؤولة عما آلت إليه الأمور كونه من السذاجة إغفال وجود أطراف مخابراتية داخلية وخارجية، قد تتسلل وتختلق إشكالات غير محسوبة. ويبقى السؤال الذي يشغل الكثيرين: لماذا فشل الحراك الأول في سنة 2005 والثاني في 2019 ووصلت الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم بما يكاد يعيد البلاد إلى مشارف نزاع أهلي مسلح؟
لا الوقت ولا المعطيات المتوفرة تسمح بتوزيع المسؤوليات والدروس، إنما خطورة ما جرى وما قد يستتبعه من تداعيات، تدفعنا للقول إن تجنبه كان متاحاً لو قدر للمسؤولين والمعنيين بشؤون السياسة أكانوا في السلطة أو المعارضة، وكذلك الهيئات والمجموعات المنبثقة عن حراك «17 تشرين» على اختلافهم، اعتماد مقاربة مختلفة لسياسة وسلاح حزب الله وحلفائه.
كلنا مع القاضي البيطار في سعيه الصادق للكشف عن ملابسات انفجار المرفأ. لكن الناس كما معظم القوى السياسية، تتبنى فرضية خاطئة من أساسها، وهي اعتبار أن بعضاً من مؤسسات الدولة وأجهزتها تعمل بشكل سليم ومعافى في زمن الدولة مغيبة فيه، وتم الاستيلاء على مقدراتها ومؤسساتها وصناعة قرارها. فكيف نصدق ونقتنع بوجود قضاء مستقل قادر على تنفيذ أحكامه بينما جميع الأدوات التنفيذية مخطوفة وخاضعة لقوة من خارج الدولة؟
لم يحِن الوقت بعد لينسى اللبنانيون السجالات بشأن الرغبة بإحالة جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه إلى محكمة دولية، وما استتبعها من أعمال عنف واغتيالات. قامت الدنيا ولم تقعد، وحتى بعد تشكيل المحكمة، رفض حزب الله الاعتراف بها، بحجة أنها مسيسة واعتبر أحكامها وقراراتها كأنها غير موجودة. ومن المفيد أيضاً التذكير بأن أحكام المحكمة الدولية حصرت التهمة بشخص واحد هو سليم عياش، ولم تتوسع أكثر إلى الحزب الذي ينتمي إليه، في دلالة على أهمية البعد السياسي الإقليمي لدور الحزب والخشية الدولية من توجيه أصابع الاتهام إليه. جريمة تفجير مرفأ بيروت تتعرض للمسار نفسه مع رفض نقل القضية إلى القضاء الدولي واعتبار التحقيق الداخلي مسيساً.
المقاربة الثانية الخاطئة هي القناعة بإمكانية الشراكة مع الحزب ومحوره في الحكم على قدم المساواة واستبعاد فكرة العزوف عن السلطة برمتها. سبق للزعيم الدرزي وليد جنبلاط أن أشار إلى هذه القضية ونصح الرئيس سعد الحريري بأن «يتركهم يحكمون»، لكنه ما لبث أن ابتلع نصيحته على الرغم من صحتها. كان من الأفضل لو أن المعارضين لسياسة الحزب وهيمنته تركوه يحكم مع حلفائه، لأن المشاركة السياسية مع هذا المحور المتسلط لا تعني أكثر من تأمين الغطاء السياسي له وفتح الباب أمامه ولو قليلاً لعلاقات دولية ومساعدات اقتصادية ومالية على غرار ما تقوم به حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. حكومة ولدت بمباركة أوروبية وازنة، وها هي اليوم تتعثر أمام أول مشكلة ناتجة عن تسلط الحزب ومهددة بالاستمرار كبطة عرجاء على قاعدة إما أن توافقوا على ما أريد وإما أن توافقوا على ما أريد! لا خيار ثانياً، لأن الحزب لن يغامر بإسقاط الحكومة - الغطاء، لكنه سيطوعها حتماً كما تعوّد بنسف كل المرادفات النابعة من الدستور كالسيادة وفصل السلطات واستقلالية القضاء، أو بالقمصان السود.
وقد سبق للرئيس الحريري وحكوماته أن عانى من التجربة نفسها، ووصلت ذروة المعاناة في حكومته الأخيرة زمن التفاهم مع التيار الوطني الحر وربط النزاع مع حزب الله وما أدى إليه، حتى سقوطها مع انتفاضة «17 تشرين» 2019. ومن قبله، انتهج الرئيس الحريري الأب المنحى نفسه عندما جيّر الأمن والسياسة الخارجية للنظام السوري وحلفائه واحتفظ بالاقتصاد، وعندما انتفض على هذه المعادلة تم اغتياله.
المقاربة الخاطئة الثالثة جاءت من حراك «17 تشرين» والأخطاء المميتة التي ارتكبتها أطرافه. الخطأ الأول هو وصف الحراك بداية بأنه مطلبي غير سياسي، وعندما استدركوه ووعوا أن المشكلة الأساسية هي سياسية بامتياز وقعوا بآخر؛ وهو التركيز على فساد الطبقة الحاكمة وإزالتها والوصول مكانها. وعندما أدركوا وجود الفيل في الغرفة، وأن العلة اليوم هي احتلال إيراني بأيدٍ لبنانية يهدد وجود الكيان، وأن التركيز يجب أن يكون أولاً وأخيراً على استرجاع الدولة والعمل لمواجهة هذا الخطر المحدق بلبنان، كانوا قد أصبحوا مجموعات فطرية لا رؤية موحدة بينها. تركزت اهتماماتهم على تمارين فكرية ودراسات تبحث في نتائج الأزمة كمشاكل الكهرباء وأزمة المصارف وسعر الصرف، بينما كان الأجدى البحث في مسببات هذه المشاكل وهو عدم وجود دولة في لبنان منذ عام 1969 عندما سمح للسلاح الفلسطيني باستباحة الحدود، ليأتي بعد ذلك الاحتلال السوري واليوم الاحتلال الإيراني.
المقاربة الخاطئة الرابعة هي اعتبار الانتخابات التشريعية المقبلة سلم الخلاص من دون تغيير موازين القوة الداخلية، وإجراؤها ضمن أطر الانقلابات التي نفذها حزب الله. في ظل الواقع الراهن، قد تمنح هذه الانتخابات مجموعات الحراك بعض المقاعد، لكنها دون شك ستمكن الحزب وحلفاءه من غالبية في المجلس النيابي وتشرّع الوضع الاحتلالي القائم بمباركة دولية ساذجة وخبيثة لمجرد أن الانتخابات جرت. وهذا أخطر ما يمكن أن يحصل للبنان، لأن ما سيستتبعه هو قبول المعارضات بالأمر الواقع وبحثهم عن حصص داخل سطوة الحزب وهمهم من يكون الأقوى ضمن دولته، وسيستغلهم عندها لخدمة مشروعه الهادف إلى تغيير وجه لبنان.
آخر الكلام أن جبهة معارضة واحدة موحدة ومتجردة من الطموحات الحزبية كما الشخصية الضيقة والتي تقود معارضة سلمية مدنية غير مسلحة تضغط بكل الوسائل المتاحة لجر حزب الله إلى طاولة المفاوضات، تبقى الحل الوحيد، وغير ذلك يعني المضي عبر الطريق السريعة نحو الانتحار.