بقلم : سام منسى
تتكثف الأنباء حول معاودة وشيكة لمفاوضات فيينا تحسم أمر الاتفاق النووي سواء من طهران أو واشنطن، ما يدفع إلى التساؤل بشيء من الاستغراب: بماذا يجيب المسؤولون الأميركيون عن سر هذه الهرولة للعودة إلى الاتفاق النووي، لا سيما أن إيران الساعية وبإلحاح إلى رفع العقوبات أو بعضها عن كاهلها أكثر تروياً وحتى تشدداً؟ الإجابة الأميركية من أعلى مسؤول إلى أدناهم مرتّبة مثّلثة الأبعاد:
الأول منها هو عدم انزلاق المنطقة إلى سباق تسلح نووي، والثاني تجنب ويلات حرب إقليمية مدمرة بين إيران وحلفائها وإسرائيل المسكونة بهواجس تحوّل إيران إلى قوة نووية، والثالث ينبع من الثاني وهو منع إيران من امتلاك سلاح نووي.
إن مراجعة سريعة للأهداف الثلاثة تبين أن العودة إلى الاتفاق إذا تمت وفق ما تعلنه وتسعى إليه إيران، أي عودة من دون تعديلات على النص الموقّع ورفع العقوبات أو أغلبها عنها، لا تتطابق مع الأهداف الأميركية المعلنة.
فمسار إيران وفق ما تقوله واشنطن نفسها وكررته الأيام الفائتة وكذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإسرائيل وحتى الأوروبيون، يؤشر إلى أنها وصلت إلى مرحلة لا تبعد كثيراً من تطوير سلاح نووي، هذا إذا اعتمدنا على شفافية إيران وصدقيتها والقدرة الاستخبارية الغربية على متابعة أنشطة سرية كشف عنها الكثير.
ولا بد من الإشارة أيضاً إلى نقطة جوهرية في الاتفاق النووي، وهي أنه يحدد التزام إيران بالقيود التي يفرضها بمدة أقصاها 15 عاماً. فماذا بعد انتهاء هذه المدة، وماذا عن سلوك إيران يوم تكون أكثر راحة واقتداراً بعد رفع العقوبات وعودتها إلى أسواق المال والحياة الاقتصادية الطبيعية؟ فأقصى نتيجة منتظرة من العودة المتعجلة إلى الاتفاق هي تأجيل المشكلة أو كما يقال في اللغة العامية «رمي الأوساخ تحت السجادة»، أي عدم حسم موضوع عدم امتلاك إيران سلاحاً نووياً بل تأجيله فقط.
وعن تجنب حرب إقليمية، فلعله يغيب عن واشنطن كما عن الأوروبيين أن العالم يعيش حالياً نوعاً من حرب عالمية ثالثة إنما على دفعات كما وصفها أحدهم، ولو أن الوصف مبالَغ فيه وكاريكاتوري، ومن أكبر مسبباتها الفشل في معالجة قضايا التطرف والتشدد العنيف، إضافةً إلى طموحات إيران التوسعية في المنطقة ونهجها وحروب الوكالة التي تشنها في بعض دولها، وما أدت إليه من نزوح وتهجير وفقر وتخلف ومشكلات اجتماعية وثقافية لن تبقى نتائجها محصورة في المنطقة، كما يظن الكثيرون في الغرب ومنهم أهل القرار في واشنطن.
إن نتائج سياسة الإدارة الأميركية تجاه إيران على المنطقة، خصوصاً في هذه المرحلة بالذات، بدأت تتجلى عبر متابعة ما يحصل في مآل الأزمات والنزاعات التي تعصف بعدد من دولها وكياناتها ومكوناتها.
في هذا السياق، سوريا تبقى في الواجهة.. فكأن الزمان يعيد نفسه ليذكّرنا ما يحصل فيها بتراجع الرئيس باراك أوباما عن معاقبة نظامها جراء استخدامه السلاح الكيماوي ضد المدنيين. هذا الموقف الذي فاجأ آنذاك حلفاء واشنطن لا سيما الفرنسيين، تَبين أن دافعه هو الرغبة في عدم إغضاب إيران المتمسكة بالنظام في سوريا والمستميتة لحمايته، وإرضائها بغية التوصل إلى اتفاق معها بشأن طموحاتها النووية وقد تم ذلك وولّد الاتفاق تحت مسمى خطة العمل الشاملة المشتركة.
اليوم يتكرر سيناريو مشابه على الرغم من أصوات أميركية معترضة عليه تعلو من هنا وهنالك، ويقضي هذا السيناريو بالتسامح مع الجهات الساعية إلى تعويم نظام الأسد والتطبيع معه وقد تصل الأمور إلى التغاضي عن تقديم المساعدة له والانخراط في إعادة إعمار سوريا. كل ذلك يجري تحت ذرائع لا تقنع حتى مروجيها، وهي السعي إلى تغيير سلوك النظام وتحريره من القبضة الإيرانية، بل وصل بعضهم من دون استدراك إلى طموح إخراج إيران وجماعاتها من سوريا!
المفارقة هنا هي في أن التسامح الأميركي هذا لا سيما مع الأردن والعراق ومصر ولبنان وبعض العرب، مردّه مرة جديدة عدم إغضاب إيران لشدها إلى طاولة المفاوضات حول النووي والعودة إلى الاتفاق، بينما الداعون لعودة العلاقات مع النظام السوري يهدفون إلى نقل الأسد من الحضن الإيراني إلى الأحضان العربية.
ولعلهم ينسون أو يتناسون أن النظام السوري، من زمن حافظ الأسد الأب وإلى زمن بشار الابن، هو المسؤول الأول عن تسهيل دخول إيران إلى سوريا ولبنان وتمددها وتمكنها منذ بدايات ثورتها عام 1979 حتى إبان التحضير لها عندما استقبل جماعات وخلايا تابعة لآية الله الخميني في بلاده. وحتى هذه الساعة، لا تزال إيران تعزّز من قوتها ووجودها لا سيما في الجنوب السوري وتُدخل المزيد من الصواريخ الدقيقة وتطور الموجود منها في سوريا ولبنان.
وهكذا سوف تؤدي سياسة واشنطن تجاه سوريا ومن دون تغيير في مواقفها العلنية المنددة بسلوك إيران «المزعزع للاستقرار»، إلى تمديد وتجديد استبداد نظام الأسد مع ما سيجرّه ذلك من مآسٍ على الداخل السوري ودول الجوار.
ولا يُستبعد أن نرى التسامح مع النظام السوري يتكرر في العراق وفي لبنان ليتم في المحصلة تسليمهما بالكامل إلى إيران ووكلائها. وقد بدأت بشائر هذا التسليم واضحة مع الحكومة اللبنانية الجديدة التي لم تخرج عن عباءة «حزب الله» لا شكلاً ولا مضموناً، وتألفت بمباركة فرنسية بخاصة وأوروبية بعامة وبرودة أميركية إن لم نقل تجاهلاً شبه تام. أما بالنسبة إلى اليمن، فسلوك واشنطن الرمادي تجاه مجازر الحوثيين سقفُه منعُهم من التعرض لأراضي وحدود المملكة العربية السعودية.
إضافةً إلى كل هذه الوقائع الجليّة، تبقى العلاقة الباردة لإدارة الرئيس جو بايدن مع قضايا المنطقة مثيرة للقلق، لأنها إن دلّت على شيء فعلى تسطيح الدبلوماسية الأميركية وقِصر نظرها، وأن حيزاً لا يستهان به من السياسة الخارجية موجّه إلى الداخل الأميركي. كل ذلك يدفع بدول المنطقة إلى خيارات غالباً لا تريدها وليست في صالحها.
الأكثر خطورة أن مناخاً من الإحباط والملل يخيّم على الاجتماع والسياسة في آن واحد في أميركا مع اعتبار تيار كبير من الأميركيين خصوصاً في صفوف الديمقراطيين أن بلادهم في حال وهن وتراجع. هذا التيار لا يريد أن يسمع ما نردده نحن في منطقتنا وغيرها من أنه إذا مرضت أميركا مرض العالم معها، والأكثر دلالة على ذلك ما عاناه العالم بأسره الأسبوع الماضي عندما انقطعت خدمات شركة «فيسبوك» لساعات قليلة! انقطاع خدمات شركة أميركية كبرى واحدة مثل عشرات غيرها، أوقف العالم على رجل واحدة، فماذا يحصل في العالم لو أضاعت السياسة الأميركية البوصلة؟ فهل تعرف أميركا حقاً ما تريده من العودة إلى الاتفاق النووي؟ لعل اقتناع واشنطن مجدداً بأنها أقوى وأهم دولة في العالم وأن الشرق الأوسط محوري في عزمها صد التوسع الصيني، يسهّل الإجابة.