بقلم:سام منسى
لفتني مقال بعنوان «شقوق الشرق الأوسط» في صحيفة كندية بقلم أكاديمي عربي كندي. والحال أن شقوق الشرق الأوسط هذه ليست مستجدة، وأضحت من الأمور المعتادة حتى إنها باتت بنيوية. المستجد هو ما سقط على المنطقة في فترة زمنية قصيرة من أحداث مفصلية ومتغيّرات جسام، ظهّرت الشقوق وتركت تبعاتها بصمات واضحة على الأوضاع السياسية والأمنية، وأبرز هذه الأحداث – المتغيرات أربعة:
الأول الذي يرخي ثقله على المنطقة هو الاتفاق بشأن الأنشطة النووية الإيرانية بين طهران ودول 5 + 1 بدءاً من المحادثات العلنية والسرية قبل التوقيع وحتى اليوم في مفاوضات فيينا التي لم تسفر بعد عن دخان أبيض أو أسود للعودة إليه بعد خروج الإدارة الأميركية منه من طرف واحد زمن دونالد ترمب، أو عدمها. ويبدو مما هو متداول عن مسار التفاوض أن نتائج الرجوع إلى صيغة اتفاق سنة 2015 أو عدمه لن تكون وفق أكثر التوقعات تفاؤلاً لصالح الاستقرار والوئام في المنطقة، وقد تسعّر النزاعات الحالية وتولّد غيرها بين دول الإقليم. فإذا نجحت المفاوضات ورفعت العقوبات عن إيران وتدفقت الأموال والاستثمارات إليها وانتهت العزلة المضروبة عليها، فذلك يعني تعزيز قدراتها وحلفائها. وفي حال تعثرت، سوف يزداد منسوب التوتر والضغوط القائمة نتيجة لأدوار إيران وتدخلاتها غير الحميدة على خلفية التجاذبات الحادة في سياق وغداة الحرب في أوكرانيا بين روسيا وحلفائها ودول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة.
الحدث – المتغير الثاني، هو تراكم مسلسل الانسحاب الأميركي السياسي والعسكري من المنطقة منذ وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض سنة 2008، وآخر عيوب هذا الانسحاب هو الخروج المخزي من أفغانستان وردود الفعل الباهتة والغامضة وحتى الملتبسة على اعتداءات جسام تعرض لها الحلفاء في المنطقة لا يتسع مجال سردها، ويبقى آخرها القصف الحوثي المدعوم والممول من إيران بالصواريخ والمسيّرات لدولة الإمارات، ومؤخراً على مدن ومنشآت سعودية، وأيضاً الصواريخ الباليستية الإيرانية ومن الأراضي الإيرانية على أربيل والتلعثم الأميركي تجاهها.
وعندما نتطرق إلى الانسحاب الأميركي، نعني بالضبط تلاشي الاهتمام بشؤون المنطقة وأحوالها السياسية والاقتصادية وبأهميتها كمصدر للطاقة وطرق نقلها وموقعها الاستراتيجي. منذ ولاية أوباما سُكنت واشنطن بهاجس التوصل إلى اتفاق يقيد أنشطة إيران النووية ويمنعها من امتلاك سلاح نووي. هذا الهوس أدى فيما أدى إليه إلى تمكّن إيران وحلفائها من مفاصل كثيرة في أنحاء الإقليم، وباتت لاعباً رئيساً ضاغطاً في أمنه وشؤونه كافة. وحرب سوريا المندلعة منذ إحدى عشرة سنة وسياسة واشنطن تجاهها تشهد على ما نقول، كما إهمال لبنان المتمادي وتركه فريسة رخيصة للتغول الإيراني، والتهاون في حرب اليمن رغم خطورتها. وحتى لا نقع في تكرار بات مملاً بشأن سياسة واشنطن، الظاهر أن خفوت اهتمامها بشؤون المنطقة كافة يتصاعد وبات يطول إسرائيل حليفتها الأولى فيها.
أما الحدث - المتغير الثالث، فهو التطبيع مع إسرائيل، وهو متغيّر استراتيجي يؤكد هبوط أولوية النزاع مع إسرائيل إلى درجة أدنى من السابق والتبدل في تصور العدو الوجودي. هذا التراجع المذكور هو نتيجة تعرّض أمن المنطقة العربية برمته لأخطار ونزاعات وحروب وتدخلات بمعظمها من إيران، لعلها سرّعت مسار التطبيع وجعلت من العلاقات مع إسرائيل ودورها يأخذ حيزاً مهماً وحيوياً في مقاربة الأزمات المتناسلة التي يمر بها الإقليم.
الحدث – المتغير الأخير، هو الحرب الجارية في أوكرانيا وما سوف ترسو عليه؛ إذ لا تزال آفاق حلها غير معروفة من جهة، وخطورة أحوال العالم بأسره بعد التوتر غير المسبوق بين روسيا ودول الغرب مجتمعة، خصوصاً إذا توسّع النزاع إلى حدود يصعب تخيّل أخطارها. هذه الحرب قلّصت مساحة الحياد لا سيما لدى الدول الصغيرة والنامية الضعيفة، وهناك قلة قد يكون لديها ترف الحياد ومنها إسرائيل، وضمن حدود ضيقة قد تسمح لها بالتمايز ولو مؤقتاً. وتبرز هنا تداعيات معاناة موسكو وربما فشلها بحيث تفقد زخمها، ما قد يعرض سوريا وليبيا وربما غيرهما لتوترات إضافية غير متوقعة وغير محسوبة. روسيا والغرب، يستميت كل من جهته لكسب الحلفاء والأصدقاء إلى جانبه لتمكين سبل المواجهة وتدعيمها مالياً واقتصادياً وعسكرياً ونفطياً بغية التغلب والانتصار.
هذه الأحداث – المتغيرات الأربعة، تضاف إلى ذيول خضات الربيع العربي على المنطقة التي لم تُشفَ منها بعد جراء ما خلّفته في عدد من الدول العربية من حروب أهلية مثل سوريا وليبيا واليمن، ومشكلات وأزمات سياسية مثل السودان وتونس. كل هذه العوامل والانعطافات جعلت من الشرق الأوسط يعاني حالة تصح تسميتها «الفوضى المنضبطة» وغير المتفلتة أو تلك المزعومة أنها خلاقة وهي تختلف عن «الفوضى المنظمة»، لأن الأخيرة هادفة بينما الأولى تفتش عن مخارج وحلول وغير متجهة إلى هدف ما.
وهنا قراءة سريعة لسلسلة التطورات والمجريات في المنطقة تفسّر ما نعنيه.
من جهة، هناك دعوة لمفاوضات بين أطراف الحرب اليمنية في الرياض، ومن جهة أخرى، يمعن الحوثيون في إطلاق صواريخهم ومسيّراتهم على مدن ومواقع حساسة في أنحاء مختلفة من المملكة وآخرها قصف منشآت لـ«أرامكو» في جدة بالصواريخ يوم الجمعة الفائت. وأبوظبي تستقبل من ناحية الحليف الأول لطهران في المنطقة الرئيس السوري بشار الأسد بعد تعرضها لقصف الحوثيين المدعومين من طهران، لتستقبل دمشق بعد ذلك مباشرة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان «لتوثيق الروابط المشتركة»، ومن ناحية أخرى، يعقد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، اجتماعاً تاريخياً في شرم الشيخ، ضم رئيس وزراء إسرائيل عدو طهران اللدود نفتالي بنيت، على خلفية البرودة في العلاقات العربية - الأميركية والانشغال الروسي التام في الحرب الأوكرانية وموقف الصين الأقرب إلى موسكو منه إلى الحياد. أيضاً وأيضاً، يتعرض لبنان لضغوطات عربية مكثفة بسبب هيمنة «حزب الله»، أداة إيران الأولى في المنطقة، بينما يجري تسويق بشار الأسد حليفه بحجة هي أشبه بالتمني، مفادها محاولة فسخ علاقته العضوية بإيران وعودته إلى المرجعية العربية. في غضون ذلك، يزور الرئيس اللبناني ميشال عون الفاتيكان ولا يتردد بتسويق مفتعل لـ«حزب الله» كحامي المسيحيين في المنطقة، مشيداً بدوره الإيجابي في لبنان، ووراء ذلك كله الترويج لمقولة حلف الأقليات التي تستبطن عداء للأكثرية العربية السنية، وبما يخالف بوضوح إرادة الفاتيكان وتوجهاته. وفي الوقت عينه، يتحدث رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي عن إحياء المبادرة الكويتية وعودة الخليج العربي إلى لبنان! إنها تناقضات الخيارات.
من المسلّم به أن خطورة الأوضاع في المنطقة، ومؤخراً العالم، تحتم التحرك لتجنب المخاطر المقبلة، والحراك مرجو بإلحاح ولكنه يصبح أنجع وأفعل لو ينبثق عن تحالف عربي واضح الأهداف يضم «الحكماء» في دول الخليج ومصر والأردن والمغرب والعراق إذا أمكن، لمخاطبة العالم والغرب، خاصة بلغة واحدة، هي مساحة التقاء بين مصالح المنطقة أولاً ومصالح حلفائها ثانياً، والأمل معقود على القمة العربية وهي على الأبواب عسى أن تعكس هذا المنحى وتجذّره وليس كما جرت العادة على إجهاضه.