مع تردد شعار «حقوق المسيحيين» وسط خضمّ التجاذبات والأزمات التي يمر بها لبنان، سأل أحد الدبلوماسيين الغربيين المخضرمين: هل يُعرف حقاً ماذا تريد كل طائفة أو كل مكوّن من المكوّنات اللبنانية؟ جاء هذا السؤال في وقت يحار فيه المراقب في معرفة أي اتجاه يحظى بإجماع داخل كل طائفة، هذا إذا افترضنا أن الإجماع مطلب في حد ذاته.
إذا راجعنا تاريخ الطوائف في لبنان، لعلنا نرى أن كلاً منها مرت أقله في مرحلة تأسيس مشروعها السياسي بفترة بَدَت فيها أنها تُجمع على رؤية واحدة. لكن سرعان ما تبدد انطباع الوحدة الظاهرة وأنها على قلب سياسي واحد، ليتبين أن الطائفة ليست كتلة متراصة صماء، أو كما قال القيادي اليساري الراحل محسن إبراهيم، لا يمكن وصفها بأنها الطائفة - الطبقة.
ليس من إجابة جاهزة صحيحة عن سؤال الدبلوماسي الحائر لدى أيٍّ من الأفرقاء، أولاً لأنه من الغرابة افتراض إجماع طائفة على رأي واحد إزاء مروحة من القضايا المصيرية المعقدة، وثانياً لأن كل الطوائف باتت مرتهَنة لزعماء وقادة ممسكين ومتمسكين بمفاصلها إلى حدود بات يصعب معها الفصل بين الزعيم وحزبه والطائفة، أو بين الطائفة والمظلة السياسية التي تحتضنها.
فهل مواقف كل الطائفة موحدة إزاء معضلات البلاد وأبرزها: حقوق الطائفة والمشاركة في السلطة والنظام السياسي بشكل عام، والسيادة وحيازة السلاح خارج الشرعية، والعلاقات الخارجية والسياسة الدفاعية، إلى كل المشكلات البنيوية بجديدها وقديمها مثل الاقتصاد المنهار والأزمة المالية والمصرفية والفساد واستقلالية القضاء، وغيرها الكثير الذي لا يتسع المجال لذكره.
لا بد من الإشارة بدايةً إلى أن الكثير من اللبنانيين، ومنهم كاتب هذه السطور، غير معنيين بالانتماء إلى مكون طائفي باعتبار أن الإيمان والأديان ليسا هوية بقدر ما هما علاقة شخصية بين الفرد وما يؤمن به. فالطائفة أو الدين ليسا حزباً أو تنظيماً أو ميليشيا أو نادياً أو جمعية يُنتمى إليها. ولتشعب هذا الموضوع، سنقتصر في هذه المساحة على المسيحيين مثالاً على بقية الطوائف في لبنان.
هل تعرف الطائفة المسيحية فعلاً ما تريده؟ وهل هي بمذاهبها وأطيافها كافة متفقة على طريقة الوصول إلى ما تريده؟ إن مراجعة سريعة لمواقف هذه الأطياف تُظهر تبايناً فيما بينهم، ويصعب على جهة مهما ادّعت التمثيل القول إنها تنطق باسمهم جميعاً.
فهناك بين المسيحيين مَن انقلب جذرياً على تاريخه القريب وبات يرضى بما تتعرض له الدولة وسيادتها من انتهاكات، ويقبل بممارسات «حزب الله» وسطوته في الداخل وتدخلاته في الخارج. هذا الفريق عاد إلى قمقم حلف الأقليات، فنسي ممارسات الاحتلال السوري وفظاعاته على مدى أكثر من 40 سنة ويستعيد بعضه مآثره بزهو، والبعض الآخر بات معجباً بالنموذج الإيراني وقابلاً لما يروِّج له وكيلُه اللبناني من عادات مستجدة وممارسات وشعائر اجتماعية، متشدقاً بأن لبنان بات جزءاً من محور الممانعة والمقاومة.
وهؤلاء راضون بازدواجية السلاح واحتكار ميليشيا له خارج القوات الشرعية ولا يرون في ذلك انتهاكاً للسيادة أو احتلالاً أجنبياً للبلاد، علماً بأن هذه الميليشيا «تأكل وتشرب وتتمول» من دولة أجنبية هي إيران. وهم يتحفظون تالياً على حياد لبنان وعلى تدويل أزمته بوصفه خرقاً للسيادة ولا موجب له لأن البلاد غير محتلة، وباتوا كالأنظمة المعجبين بها، صوتاً واحداً تعزف آلاته على الوتر نفسه في مسعى لبلورة مسيحية سياسية تماثل الإسلام السياسي على الرغم من استحالة أمر كهذا أقله استناداً إلى مفهوم المسيحية الحقّة.
وهناك من المسيحيين مَن يقف على المقلب الآخر معتبراً أن البلد محتل وسيادته منتهَكة، ويرى في سلاح «حزب الله» سلاحاً غير شرعي مصوَّباً إلى الداخل ومستخدماً في الخارج للدفع بطموحات إيران التوسعية، وأن البلاد رهينة تُستغل كورقة مقايضة في لعبة النفوذ الدولية. يدين هؤلاء إبعاد لبنان عن محيطه العربي وعزله عن المجتمع الدولي، ويطالبون بحياده وعودته إلى المظلة العربية وتدويل أزمته. لكن خلافاً للفئة الأولى، لا تشكّل هذه الفئة بوتقة واحدة، وهذا من جهة أمر صحي على مقياس الديمقراطية والتعددية، وغير صحي إذا ما تمعنّا في أسباب بعض التمايز التي تعود لحرب خاضها جميع اللبنانيين خطأً. ويستدعي ذكر الحرب أن نُذكّر بأن إيلام الطائفة على نفسها كان أشد من إيلام الطوائف الأخرى عليها. فقضى خلال الحرب الأهلية من المسيحيين على أيدي المسيحيين في معارك بينهم، أكثر مما قضى منهم على يد الأطراف الأخرى. وهو ما حصل بين المسلمين إبان الحرب نفسها.
إلى هذا، ظهّرت المتغيرات التي خبرتها البلاد مؤخراً شرائح جديدة أبرزها اثنتان: الأولى هي شريحة المثقفين من أبناء كل الطوائف غير المعنيين بالهوية الطائفية، وبينهم مسيحيون، يتحلقون حول هوية لبنانية وطنية وقيم الحرية الفردية والحداثة وحقوق الإنسان. والأخرى شريحة عمرية من الشباب تضم أيضاً كل الطوائف، لها رؤى وقيم ومعايير تختلف عن الشرائح العمرية الأخرى، وما يعد مقبولاً وعادياً عند كبار السن بات عندها مرفوضاً ومستهجناً وفي أحيان كثيرة فاسداً.
قد يجيب هذا السرد عن سؤال الدبلوماسي الأجنبي المخضرم: المسيحيون في لبنان ليسوا بوتقة واحدة لتكون لهم مطالب واحدة ورؤية سياسية واحدة وحتى مفهوم واحد لما يُحكى عن «حقوق المسيحيين»، وكل ذلك من دون الدخول في الجدل حول ما إذا كانت المسيحية «ديناً ودنيا» تفرز لاهوتاً سياسياً أم لا. وينسحب ذلك على الطوائف الأخرى لا سيما السُّنة والدروز، وبدرجة أقل الشيعة لأسباب عدة أبرزها تجذر «حزب الله» في البيئة الشيعية على مدى أربعين سنة وأكثر، بحيث نشأت أجيال على فكر وممارسات وشعائر وخدمات يصعب تجاهلها أو القفز فوقها، تضاف إليها أساليب الإلغاء والنفي والترهيب والاغتيال التي استخدمها الحزب ضد الأصوات النافرة.
واستطراداً، لعل الخلاف والاختلاف في صفوف الطوائف رحمة في الحالة اللبنانية، لأنه قد يسمح بتبلور هوية جامعة بين المتفقين من كل المكونات كانت قد تظهّرت بدايةً في انتفاضة 14 مارس (آذار) 2005 والتي شكّلت لحظة تاريخية قد لا تُعوّض، وثانيةً خلال انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 قبل أن تسقط في شَرَك الطوائف وتجاذباتها. الانتفاضتان أُجهضتا بفعل الارتهان لطبقة سياسية طائفية مكيافيلية فاسدة، وعامل استقواء ميليشياوي غير مسبوق لوكيل شرعي لقوى خارجية.
ويكمن الالتباس الأكبر في استعصاء الإجابة عن هذه الأسئلة: هل يمكن اختصار الطوائف بزعاماتها السياسية؟ وهل من مسافة بين هؤلاء وأبناء الطوائف؟ وإلى أي مدى يعبّرون فعلاً عن رغباتهم وطموحاتهم؟ لعل بين فائض كلام الزعماء وفائض صمت الشعب بطوائفه كافة جواباً شافياً لوقوف الطرفين عند نقيضين. الدالّة المهمة والمأساوية تكمن في سؤال الدبلوماسي أكثر من الإجابة عنه، لأنه يُظهر أن الخارج يتطلع إلينا كمجموعات مبعثَرة من الطوائف لا كشعب في دولة وطنية واحدة، وينظر إلى جل «الزعماء» على أنهم كالبهلوانات التي تُبكي أكثر مما تُضحك، تنقلب على مواقفها وتتشقلب بين الارتهانات لا لسبب إلا كيدها وتضخم أناتها وغبائها. والمصيبة الأكبر أن بعضهم يلهث لتحصيل «حقوق المسيحيين» من خلال مسيحية سياسية متخيَّلة من دون أن يعي أنه يبدد الكثير منها.