بقلم:سام منسى
الاجتياح الروسي لأوكرانيا في العملية الحربية الأكبر والأخطر منذ الحرب العالمية الثانية في أوروبا، تذكّر بما قاله واحد من أهم الخبراء الأميركيين في الشؤون الروسية سنة 1998 هو جورج كينان، حيث اعتبر أن توسع حلف الناتو في الجوار الروسي هو بداية لحرب باردة جديدة، «وخطأ مأساوي لا سبب له على الإطلاق».
الأزمة الأوكرانية كشفت عن حصاد مرّ للسياسات الغربية بعامة والأميركية بخاصة، بدءاً من طريقة التعاطي مع موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وما تلاها من أداء الإدارات المتتالية من باراك أوباما ودونالد ترمب وجو بايدن، وهذا الأمر لن ينزع عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سمة القائد العنيف، إنما الغرب ليس بريئاً.
كثرة الأخطاء والخطايا الغربية لا تحجب حقائق أخرى ظهّرتها الأزمة الأخيرة بين روسيا والغرب تتجاوز الخلاف مع أوكرانيا؛ أولاها شخصية بوتين وأسلوبه وأفكاره وأهدافه لجهة الأمن الأوروبي والنظام العالمي، الذي لم يتردد يوماً في سعيه لتغييره بمعزل عن أخطاء الغرب تجاه بلاده.
منذ وصوله إلى السلطة عام 1999 رئيساً للوزراء، انحرفت موسكو نحو نظام أقرب إلى ما يمكن وصفه بديكتاتوريات القرن الحادي والعشرين المحدّثة. نزعة بوتين هذه وحنينه إلى أساليب حكم الأجهزة الأمنية والمخابرات لا يمكن تغليفهما بمحاصرة الغرب لبلاده واستهدافها أو كتم عدائه للأنماط والمبادئ الديمقراطية الليبرالية وأنماط الحياة في الغرب.
سجل حاكم روسيا في الداخل يحتاج إلى صفحات لتعداد ممارساته ضد المعارضين... ممارسات لا تمت بصلة لما يلصقه بدول الغرب والناتو من أهداف ضد بلاده أو جيرانها الأقربين والأبعدين.
ما يوصف باستفزازات الغرب لروسيا ليس وراء تماهيها مع الأنظمة المشابهة ودعمها والسعي إلى شراكات أو تحالفات معها.
مراجعة سريعة لسياسات موسكو منذ وصول بوتين إلى السلطة عنوانها الرئيسي الخوف من التغيير. أي شكل من أشكال التغيير غير مرغوب، ولو قدر له إعادة بناء الستار الحديدي السوفياتي ليحجب رياح التغيير والتجديد في العالم لما تردد.
منذ 1999 عمل على التصدي لحركات الاحتجاج من دعم سلوبودان ميلوسوفيتش في كوسوفو عام 1999 إلى جورجيا في 2008 واجتياح القرم في 2014 والتدخل في سوريا في 2015 ودعم نيكولاس مادورو في فنزويلا وإنهاء الانتفاضة في كازاخستان وبيلاروسيا، هذا عدا عن دعم ومساندة إيران وأدوارها بوجه المجتمع الدولي برمته، حتى وصل إلى ما وُصف «بحرب بوتين وليس روسيا» بأوكرانيا في 2022.
هذه المراجعة هدفها القول إن ما نشهده في أوكرانيا لا يمكن عزله عن الهواجس في رأس بوتين. فالعودة إلى لعب دور الدولة العظمى لا يتناقض مع روسيا ديمقراطية ليبرالية، لا سيما بعد زوال العائق العقائدي وتحولها إلى الاقتصاد الرأسمالي، لكن المحيطين ببوتين جعلوا منه اقتصاداً رأسمالياً فاسداً لم يحقق إصلاحات عميقة وأدى إلى ركود اقتصادي مزمن واعتماد على النفط والغاز وتصدير السلاح، والتركيز على الخارج والسعي إلى عودة ما يعتبره بوتين أمجاد بلاده التاريخية وزمن سطوة السوفيات. ويخطر هنا ما كتبه المؤرخ الأميركي نيل فيرغسون بمجلة «تايم» منذ سنوات أن «روسيا هي بمثابة نيجيريا مغطاة بالثلوج».
ما يحدث في أوكرانيا يشبه تفجير برجي التجارة في نيويورك سنة 2001 ونتائجه تبدو مفتوحة على كل الاحتمالات. فكما قال جوزيب بوريل مفوض السياسة الخارجية الأوروبي، إن أوروبا لن تكون بعد اجتياح بوتين لأوكرانيا كما كانت قبله. وقد يكون الشرق الأوسط والعالم العربي بخاصة من الأكثر تأثراً بهذا التطور في العلاقات الدولية وبالحرب الباردة المحدّثة إذا استمرت باردة. سوف تشهد دول الغرب قاطبة بما فيها الولايات المتحدة تحديات جديدة تواجهها قيادات بعيدة عن زمن ما قبل التسعينات، زمن قادة برتبة رجالات دولة يتمتعون بقوة الشخصية وحكمة وجرأة أصبحتا نادرتين في هذا الزمن.
هذا الواقع لا بد أن ينعكس على منطقتنا منذ بداية الأزمة حتى نهايتها الدراماتيكية، لا سيما حلفاء واشنطن والغرب. الموضوعية تقتضي الاعتراف بأنه يصعب على حلفاء واشنطن القفز فوق سياساتها المترددة وتصرفاتها الملتبسة وغير المبررة في الإقليم وهي كثيرة، من تراجع أوباما عن خطوطه الحمر في سوريا يوم مقتل المئات من المعارضين بالسلاح الكيماوي كرمى عيون إيران والاتفاق النووي معها لاحقاً، إلى الموقف من الحرب في اليمن ورفع إدارة بايدن الحوثيين من لوائح الإرهاب!
أما بايدن وإدارته فليسا أفضل حالاً من سابقيه يوم جاء رد فعله على تعرض الإمارات العربية المتحدة إلى صواريخ ومسيّرات حوثية أقل بكثير من حجم اعتداء بهذه الخطورة يهدد أمن دول الخليج برمتها، إلى الهرولة باتجاه اتفاق جديد مع إيران لا يأخذ في الحسبان مصالح المنطقة. تاريخ من الخذلان للحلفاء تدخل فيه وقائع أخرى لا مساحة لتعدادها.
ولكن، على الرغم من فداحة الأضرار المتأتية عن هذه السياسة لا يجوز عربياً تكرار خطيئة ياسر عرفات يوم تضامن مع صدام حسين إبان غزوه الكويت واحتلالها. المرحلة لا تسمح بترف المواقف الرمادية. إن ممارسات بوتين على الصعد كافة وإقدامه على تغيير الحدود والعبث بأمن القارة الأوروبية والأمن العالمي برمته، هي ممارسات تسهم في تهافت المبشرين بالتوجه شرقاً نتيجة تراجع واشنطن عن مساندة حلفائها.
إن النموذج الذي يعرضه ويسوّقه بوتين سبقت معاينته في سوريا، حيث جدّد وحدّث بالتعاون والتحالف مع إيران وأدواتها لنظام لم يكتفِ بفظائع ضد جيرانه من لبنانيين وفلسطينيين وعراقيين على مدى سنوات، بل إنه هجّر الملايين من شعبه وقتل وخطف وعذب مئات الآلاف.
مع تباشير ردود الغرب على ما يحدث في أوكرانيا، لا ندري إذا كانت واشنطن ستراجع سياستها أوروبياً وتجاه الشرق الأوسط، كما سياساتها مع موسكو وبكين أيضاً بعد تركهما على غيهما لا سيما في المنطقة. ومع ذلك، ليس المطلوب من حلفاء واشنطن نسيان أخطائها، بل مواجهتها بوضوح كحلفاء لهم رؤيتهم وبوصلتهم الواضحة والحاسمة لمستقبل ومصالح منطقتهم وشعوبهم، وهذا يعني من دون أدنى شك عدم الوقوف إلى الجانب الخاطئ في مقاربة ما يجري بأوكرانيا، ليس ولعاً بالنسر الأميركي بل تجنباً لنموذج الدب الروسي.