بقلم : سام منسى
حادثة المسيَّرات التي انفجرت فوق قبة الكرملين الأسبوع الماضي خرقت المراوحة الحالية التي تمر بها الحرب في أوكرانيا، وتعثر تقدُّم أي من طرفيها، لا سيما في الجبهات الساخنة. من غير المتوقع أن ينجلي الغموض المحيط بهذا الحدث قريباً، لكن ذلك لن يمنع اعتبار يوم وقوعه يوماً مهماً من الأيام التي ستُذكر حين تستعاد اللحظات الفارقة في مسار الحرب الروسية الأوكرانية، ولا بد من التذكير أيضاً بأن حرب المسيَّرات بدأتها موسكو بعد أن تلقت المئات منها من إيران.
أن «تُستهدف» موسكو عشية سيل من الاتهامات المتبادلة بين روسيا وأوكرانيا، كما بين روسيا وواشنطن، زاد من الغموض المحيط بالحادثة، إذ اعتبرتها موسكو محاولة اغتيال أوكرانية فاشلة لفلاديمير بوتين، وهجوماً أميركياً نفذته أوكرانيا بالوكالة عن واشنطن، في حين اعتبرتها كييف محاولة يائسة من بوتين لحشد التأييد للحرب بعد أن طال الحسم الموعود وتضاءل الأمل الروسي فيه.
حقيقة الأمر أن رصيد كل من روسيا وأوكرانيا في هذه الحرب كما في غيرها، لا يسعف كثيراً في الجزم بمصداقية أي من الروايات والاتهامات المتداولة. فقد سبق لكييف أن نفذت عمليات هجومية خارج ميدان الحرب الدائرة. في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022. فجّرت شاحنة مفخخة على جسر كيرتش، الذي يعد أحد أهم الروابط الحيوية بين روسيا وقواتها في جنوب أوكرانيا، وتحسبه موسكو رمزاً لنهاية ضمها لشبه جزيرة القرم. إلى هذا، تعرضت منشآت نفطية وبنى تحتية روسية أخرى لهجمات مماثلة بمسيَّرات مثل هجوم 29 أبريل (نيسان) على مستودع نفط في سيفاستوبول، اتهمت كييف بالمسؤولية عنها. من ناحية أخرى، أدى انفجاران منفصلان وقعا قبل أيام في منطقة بريانسك الحدودية الروسية إلى خروج قطارات الشحن عن مسارها، بينما دُمرت خطوط الكهرباء بواسطة عبوة ناسفة مشتبه بها في منطقة لينينغراد.
أضف إلى الأسباب الآنفة التي تدعم فرضية أن تكون أوكرانيا فعلاً هي من يقف خلف الهجوم على الكرملين، أن واشنطن تراهن على مكاسب ميدانية رئيسية ينبغي أن تحققها أوكرانيا لتعزز موقف كييف في أي مفاوضات مستقبلية للصراع، لا سيما مع بروز إشارات أميركية واضحة أن إدارة بايدن منفتحة على إمكانية التعاون الأميركي الصيني من أجل الوصول إلى حل سياسي بين روسيا وأوكرانيا. وتتعامل إدارة بايدن بإيجابية مع ما تصفه بـ«العناصر الإيجابية في خطة السلام الصينية المكونة من 12 نقطة»، التي اقترحت في وقت سابق وحظيت باهتمام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. فهل هذه الضربات جزء مما بات يعرف بـ«هجوم الربيع» المرتقب من قبل كييف، الذي تحدثت عنه التقارير الاستخباراتية والأمنية خلال الأسابيع الماضية؟
من جهة أخرى، يحفل التاريخ الروسي باستخدام العمليات الأمنية المخادعة لتبرير أفعال وسياسات معينة، أو توجيه الاتهامات الباطلة لخصومه لجعل أفعاله الخارجة عن المقبول السياسي والأمني تبدو وكأنها مجرد رد فعل على أفعال مماثلة سبقتها وكانت من فعل أعداء روسيا. فعلى سبيل المثال، الحديث الروسي الكثيف عن احتمال لجوء أوكرانيا إلى استخدام السلاح النووي في مرحلة ما من مراحل الحرب، أثار الرعب في العواصم الأوروبية من أن تكون هذه الحملة التضليلية مجرد توطئة لاحتمال أن يأمر الكرملين نفسه باستخدام السلاح النووي إذا ما اضطر لذلك. وبحسب بعض المحللين، تحتاج موسكو إلى إعادة حشد الرأي العام الروسي من خلال إشعار المواطن الروسي بأن خطر «النازيين الجدد» حقيقي، وقد وصل إلى قلب العاصمة، وتقوم بذلك عبر هندسة عملية مخادعة تتهم أوكرانيا بها وتجعل حرب بوتين في أوكرانيا حرب اضطرار لا حرب اختيار أغرق الأمة الروسية بها لأسبابه الخاصة.
ففي وقت يفترض بالأمة الروسية أن تحتفل بيوم النصر تمجيداً لانتصار الجيش السوفياتي على ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، يعيش الشعب الروسي على وقع مأساة جارية الآن هنا. فقد كشفت وثائق البنتاغون المسربة عن خلافات عميقة داخل جهاز الأمن الروسي، أدت إلى اتهام وزارة الدفاع الروسية بتقليل عدد ضحايا الحرب في أوكرانيا. وبحسب هذه الوثائق، تقدر المصادر الاستخباراتية الخسائر الروسية بما بين 189500 و223000 ضحية مع مقتل 35500 إلى 43000 رجل أثناء القتال. وفي هذا السياق أعلن رئيس شركة فاغنر العسكرية الروسية يفغيني بريغوجين أن قواته ستنسحب من باخموت، مرجعاً قراره إلى عدم توفير وزارة الدفاع الروسية الذخيرة لعناصره.
تشير هذه السياقات الروسية، معطوفة على إلغاء الكثير من المشهديات الاحتفالية بيوم النصر بحجة حادثة المسيَّرات، إلى أن نظام بوتين يستشعر حجم الامتعاض الشعبي من حرب طالت، وكان يفترض فيها أن تكون مجرد نزهة نحو تغيير النظام في كييف، لا سيما مع عدم تحقيق انتصارات جدية في الميدان. ولئن كانت استقصاءات الرأي العام الروسي التي تصل من موسكو بشأن مستويات تأييد الحرب موضع شك كبير بشأن دقتها وسلامة المعايير المتبعة للوصول إليها في بلد لا يسمح بالتعبير الحقيقي عن الرأي، لا بد من التوقف عند حقيقة أن حملات البروباغندا الروسية التي تظهر التأييد الشعبي الروسي للحرب، لا تنسب هذا التأييد المفترض إلى إنجازات ميدانية فعلية أو سياسة محددة. فجل الدعاية الروسية تصف التأييد الروسي المفترض بلغة خطابية معبأة بمفاهيم مجردة من نوع الكبرياء القومي الروسي وأمجاد الأمة الروسية والافتخار بالهوية وما شابهها.
على هذه الخلفية، يذهب البعض إلى احتمال أن الحاصل في روسيا يشبه حال تمرد متنامية تنبع أسبابها من رفض الحرب ورفض خيارات موسكو بصرف النظر عن أوكرانيا وسياقات الموقف القومي الروسي منها. وتشير بعض الهجمات مثل استهداف الناشطة السياسية داريا دوغين، ابنة ألكسندر دوغين المفكر الروسي المعروف بمواقفه المتطرفة والمؤيد للهجوم الروسي على أوكرانيا، أو اغتيال المدون الروسي الشهير فلادلين تاتارسكي في مدينة بطرسبرغ الروسية بانفجار بأحد المقاهي، إلى نسق يتصل بالتمرد على الكرملين أكثر من اتصاله بعمليات أوكرانية. فمن المعروف أن كييف تتعامل مع إمدادات عسكرية وأمنية حساسة جداً تمنعها من التمدد بأنشطتها التجسسية والأمنية خارج حدود الميدان المباشر، على ما صرح به أكثر من مسؤول أوكراني بينهم زيلينسكي.
لا حدود للسيناريوهات التي يمكن التفكير فيها لحادث مسيَّرتي الكرملين في ضوء الادعاءات المتضاربة والدوافع المحتملة لمن يقف خلفه، مما يُلزم المراقب بأعلى درجات الحذر والترقب. لكن الاهتمام بهذا الحدث يظل بالغ الضرورة، نظراً إلى تداعياته المحتملة على مجمل الصراع المستمر بين روسيا وأوكرانيا، وعواقبه بعيدة المدى، التي ستقرر مستقبل هذه الأزمة الدولية الخطيرة.