خلال الفترة الصاخبة، في ثمانينات القرن الفائت، قال وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز: «يجب فرض الحظر على لبنان لأنه موبوء بالطاعون». واليوم، هناك مَن يتذكّر هذه المقولة. فواشنطن تترك لبنان يغلي وحده، وتلتزم الصمت المطبق إزاء أعنف اهتزاز سياسي واقتصادي - وربما أمني - يتعرّض له، منذ خروج القوات السورية عام 2005. فهل ما يجري معروف ومتوَقّع؟ وتالياً، هل هناك مَن يترقّب نهاياته ليَبني على الشيء مقتضاه؟
في العادة، حادثٌ عابرٌ في شارعٍ بيروتي يستدعي تعليقاً في المملكة العربية السعودية وحليفاتها الخليجيات ومصر. أما واشنطن، فقبل أسابيع قليلة، أصدرت بياناً من سفارتها في عوكر، يضع النقاط على الحروف، لمجرد أنها سجَّلت هجمة قاسية على رئيس «التقدمي» وليد جنبلاط.
وأمّا الفرنسيون الذين كانوا مُستنفرين، منذ عام ونصف العام، لمنع وصول لبنان إلى الأسوأ مالياً، فإنهم صامتون تماماً فيما الانهيار يكاد يصبح أمراً واقعاً.
إذاً، القوى العربية والدولية التي يعتمد عليها لبنان لإنقاذه، خصوصاً على الصعيد المالي، هي التي تضغط عليه اليوم، بل تستخدم الورقة لدفعه إلى النأي بنفسه عن نفوذ إيران. وهذه العملية لم تبدأ اليوم، بل هي استكمال لمَسار أخذ يتكرّس في السنوات والأشهر الأخيرة.
يجدر هنا إدراك لماذا لا يُفرج الفرنسيون عن مساعدات «سيدر»؟ ولماذا يُبدي الخليجيون دائماً كل استعداد لمساعدة لبنان، لكنهم يتراجعون عند التنفيذ؟ والتجربة المريرة التي خاضها الرئيس سعد الحريري قبل انتفاضة 17 تشرين بين فرنسا ودولة الإمارات كانت معبِّرة.
طبعاً، السعوديون هم أكثر المتحمّسين والمترقّبين لِما يجري اليوم في لبنان. وللمصادفة، هو يتزامَن مع الذكرى السنوية الثانية للأزمة التي مرّ بها الحريري، في 4 تشرين الثاني 2017. وهم يجدون أنّ الفرصة سانحة لإبعاد لبنان عن النفوذ الإيراني، والباقي تفاصيل.
فالحرب على الفساد تقود حتماً إلى تسيير الدولة اللبنانية لشؤونها من داخل المؤسسات وبقواها الشرعية. وهذا يعني تلقائياً إبعاد نفوذ «حزب الله» وتَحكُّمه بالقرار السياسي والأمني والاقتصادي. والبُعد السياسي لعملية الإصلاح هو ما تريده القوى الدولية والعربية المناوئة لإيران.
وعلى الأرجح، أوقف الفرنسيون سلسلة مؤتمراتهم «الخيرية» للبنان، أي باريس 1 و2 و3، لأنهم يريدون تحقيق هذا الهدف أيضاً. فقد كان ممكناً أن يتعاملوا مع باريس 4، أي «سيدر»، كما تعاملوا مع المؤتمرات السابقة، بمزيد من «التطنيش» وتمرير المساعدات إلى لبنان من دون إلزامه بشروط الإصلاح.
وكذلك، كان واضحاً أنّ المؤسسات الدولية قررت التوقف عن مراعاة لبنان. ولذلك، خَفّضت تصنيفه السيادي، وأصدرت التقارير السلبية الصريحة حول أوضاعه المالية، خلافاً لما فعلته على مدى سنوات.
ويقول متابعون: كلّ ذلك جزء من المواجهة الأميركية - الإيرانية. فالولايات المتحدة هي التي تقود عملياً كل آليّات الدعم التي يريد لبنان تحريكها، ولا يمكن للفرنسيين أو للسعوديين أو المؤسسات الدولية أو الجهات المانحة الأخرى إلّا أن ينخرطوا في المواجهة.
ففي العمق، الكلمة السرّ موجودة في واشنطن. فعلى مدى 3 سنوات، أوصَلت رسائلها الواضحة إلى لبنان ومفادها أنّ أمامه خيارين: إمّا أن ينأى بنفسه عن النفوذ الإيراني، وإمّا أن يتحمل عواقب توسيع العقوبات لتشمل الدولة اللبنانية ككل.
حتى الأمس القريب، بقي الأميركيون يحرصون على عدم إحراج لبنان، وأبقوا الباب مفتوحاً للتمييز بين «حزب الله» وشركائه في السلطة، على أساس أنّ هناك خصوصية معينة تُجبر الفئات الأخرى على مراعاة المكوِّن الأساسي في الطائفة الشيعية، حتى إشعار آخر.
لكنّ هذه المراعاة زالت تحت وطأة «الكباش» الساخن المفتوح مع إيران. ولذلك، بدأ يرشح من الأوساط المعنية في واشنطن كلام أكثر جدية مَفاده أنّ العقوبات ستستهدف قوى لبنانية أخرى، إضافة إلى «حزب الله»، وهذا يعني «التيار الوطني الحر» تحديداً.
وفي الموازاة، تقود واشنطن، ومعها قوى دولية وعربية، عملية عزل لبنان كله عن نفوذ «الحزب»، وهذا الأمر ستكون له عواقب قاسية على الوضع اللبناني، خصوصاً على المستويات الاقتصادية والمالية والنقدية.
وفي رأي المطّلعين أنّ الكلام على انخراط الولايات المتحدة في التضييق مالياً على لبنان، في هذه المرحلة، ليس دقيقاً. فهي لو قامت بذلك لَما تَمكّن لبنان من الصمود لأيام. إنها فقط رفعت جزءاً من غطائها الحامي للبنان الرسمي، كإنذار، كي تدفعه إلى النأي بنفسه عن نفوذ «الحزب». وتأجيل المساعدة المقرّرة للجيش، بمقدار 105 ملايين دولار، هي مجرد رسالة.
وهكذا، وانطلاقاً من مقولة شولتز عن البلد المَوبوء، يمكن القول إنّ الأميركيين يتصرفون اليوم وكأنّ الشرق الأوسط كله موبوء. ولذلك، يسحبون أيديهم من حروبه المباشرة، ويجلسون خلف الكواليس يترقّبون كيف تخوض شعوبه مواجهاتها وتعالج مشكلاتها بنفسها، من لبنان إلى سوريا فالعراق واليمن.
فهل تكتمل فصول المشهد حتى النهاية أم انّ المُخرِج سيَعمد إلى إجراء تغييرات على السيناريو؟ وما سيكون الاتجاه الغالب: المواجهة أو الصفقة؟
الخبراء يقولون: المواجهة هي تلك الجارية الآن. وهي على الأرجح ستنتهي بالصفقة. والرئيس دونالد ترامب بارع في الصفقات أكثر من الحروب. وبديهي أن يسعى إلى صفقة مع الإيرانيين على السجّادة الشرق أوسطية كلها.
ولكنّ إيران تفكّر في خيارات أخرى. فهي تراهن على أنّ التوازنات الإقليمية والدولية ستسمح لها بتمرير العام الأخير من ولاية ترامب بلا صفقة ولا حرب، وقد تتغيّر الظروف لمصلحتها، إذا لم يتمكن الرجل من العودة إلى البيت الأبيض.
إذاً، الشرق الأوسط كله يغلي. والجميع خائف على مصيره وموقعه ودوره في الصفقة المحتملة. فهل يُبرِم الإيرانيون عقدَ بيعٍ في العراق، وعقدَ شراءٍ في لبنان مثلاً أو العكس؟ وما هي حصّتهم في سوريا واليمن وغزة وسواها؟ الجميع ينتظرون، والطبخة على نار الحراكات الشعبية.