هل يستطيع البلد أن ينتظر شهرين إضافيين، على الأقل، من «تضييع الوقت»؟ يبدو أنّ جماعة السلطة الذين أضاعوا سنوات، فكان لهم الفضل في انهيار البلد، قد اتخذوا القرار: «ننتظر مجدداً. سيرحل دونالد ترامب عن البيت الأبيض في 20 كانون الثاني، فنرتاح».
في لبنان، هناك تصوير غير واقعي لمناخ اللقاءات التي عقدها وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو في باريس. فصحيح أنّ إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون لم تكن تتوقع الزيارة، لأنّ الرؤساء الأميركيين لطالما تجنّبوا إرسال وزرائهم في مهمَّات خارجية حسّاسة في المراحل الانتقالية، ولكن الحديث عن خلافات بين واشنطن وباريس في ملفات عدّة، بينها لبنان، فيه كثير من التضخيم.
الفرنسيون قلقون من انهيار لبنان الكيان، وهذا ما أكدوه صراحة. وهم يخشون ذهابه ضحية النزاع بين واشنطن وطهران، ويشاركون الأميركيين اقتناعهم بأنّ «حزب الله» هو حلقة الربط بين لبنان وأزمات المنطقة، لكنهم يخالفون واشنطن في طريقة التعاطي معه:
الأميركيون يعتبرونه تنظيماً إرهابياً تُحرِّكه إيران، فيما يفضّل الفرنسيون تجنُّب وَصمه بالإرهاب لإبقاء الباب مفتوحاً لمحاورته واستيعابه بالسياسة. ولكن، في النهاية، يلتقي الفرنسيون والأميركيون على هدف واحد هو إبعاد لبنان عن المحاور الإقليمية.
والتقرير الذي رفعه الموفد الرئاسي الفرنسي باتريك دوريل إلى ماكرون، عن زيارته لبنان، تزامناً مع زيارة بومبيو، يشير إلى أنّ الضغط الأميركي على الطبقة السياسية التي يقودها «حزب الله» هو الذي يَعوق تشكيل الحريري لحكومته، لكنه في النهاية يلتقي مع التشخيص الأميركي للأزمة: طبقة السلطة غارقة في المنافع والفساد، ومستفيدة من استمرار الترابط بين فساد الداخل ومصالح الخارج.
الأميركيون منحوا باريس فرصة «التجربة» في لبنان منذ مؤتمر «سيدر» في 2018، ففشلت لأنّ إيران رفضت التنازل هنا، لأيّ سبب كان. ويعرف الفرنسيون أنهم فشلوا، لكنّ البديل بالنسبة إليهم هو أن ينسحبوا من لبنان فترتفع مخاطر سقوط الدولة، والأخطر سقوط الكيان. ولذلك، قرّروا الاستمرار، ولو في المراوحة، ومن دون أوراق قوية يلعبونها.
واليوم، يضيع الفرنسيون في المَعمعة: لا إصلاح يستطيعون تحقيقه ولا نأي بالنفس. يحاولون دعم حليفهم سعد الحريري في تشكيل حكومة، ولكن بلا أفق. يعقدون مؤتمراً لمجموعة الدعم، ولكن للمساعدات الإنسانية فقط. يُبقون زيارة ماكرون قائمة في كانون الأول، لكنهم لا يتوقعون منها أي ثمار سياسية. وليس في الأفق ما يسمح لهم بإخراج مبادرتهم من النفق.
إذاً، المبادرة الفرنسية تدور حول نفسها، ويشعر الفرنسيون أنهم وحيدون في لبنان وأن أحداً لا يفهم عليهم، لا إيران ولا الولايات المتحدة، ولا في لبنان ولا في خارجه، فماذا سيفعلون؟
العارفون بموقف باريس يتوقّعون ألّا تفعل شيئاً، فقط ستنتظر تَطوّر الأحداث خلال الأشهر المقبلة لعلّها تفتح الباب لمَخرجٍ ما، في أي اتجاه كان. وهذا الموقف يَلقى في لبنان تشجيع القوى المُمسكة بالسلطة، لأنه يتناسب ورهانها الدائم على «تقطيع الوقت».
لكن الفخّ يكمن هنا: الرهان على الوقت هو تحديداً ما أرادته طهران دائماً. وعلى مدى عام انتظرت هزيمة ترامب في الانتخابات، وهي اليوم تنتظر رحيله ودخول جو بايدن إلى البيت الأبيض. أي إنّ خيار «تقطيع الوقت» في لبنان ليس خياراً بسيطاً، ولا خياراً محلياً يعتمده طاقم السلطة ليبقى محتفظاً بالمكاسب، بل هو جزء من الخيار الإيراني لمواجهة الولايات المتحدة في لبنان.
واستدراكاً، هو جزء من لعبة تثبيت النفوذ الإيراني على الحوض الغربي للمتوسط، قبالة أوروبا وفوق آبار الغاز، وعلى الحدود مع إسرائيل. ولذلك، هذا الانتظار يُصَنَّف أميركياً في خانة الخَطِر، والأرجَح أنهم سيستعجلون الحسم.
الآن، تتبنّى طبقة السلطة في لبنان خيار انتظار شهرين إضافيين ليرحل ترامب عن البيت الأبيض، فيبدأ الكلام مع بايدن. وفي رأي بعض المتابعين أنّ فرنسا ربما تقتنع أيضاً بهذه الفكرة كأمر واقع، لعل معطيات جديدة تولَد وتسهِّل الحل. وكذلك، يلتزم الحريري جانب الانتظار تلقائياً ما دام عاجزاً عن التأليف.
لا يكشف الحريري إذا كان، في أعماقه، يؤيّد العودة إلى تسوية 2016. فهي كانت رحلة حافلة بالمكاسب مع «التيار الوطني الحرّ» والرئيس نبيه بري، برعاية «حزب الله»، وفي هذا المعنى هي جذّابة. لكنها في المقابل انتهت بانهيار البلد، وجَرّت عليه العقوبات الدولية.
وفي أي حال، ليس الحريري حُرّاً في اتخاذ قرار بالعودة إلى «التسوية»، لأنها باتت محظورة أميركياً. وليس في مصلحة أي طرف داخلي أن يستفزّ واشنطن بالعودة إليها. وبديهي التذكير بأنّ أغنياء العرب، الذين يعتمد عليهم لبنان في المال والاقتصاد، كانوا السبّاقين لإسقاط هذه «التسوية» باستقالة الحريري نفسه من رئاسة الحكومة في تشرين الثاني 2017. وهم لن يتحمَّلوا أبداً عودته إليها.
إذا اقتنعت فرنسا بخيار الانتظار حتى مطلع السنة الجديدة، لأن لا خيارات أخرى تملكها، ومعها الحريري، فهذا قد يَستفزّ إدارة ترامب في التوقيت الحسّاس بين ولايتين، فيما ترتفع مستويات التوتر، ويدفعها إلى الحسم بأيّ اتجاه كان.
الحريري مقبول أميركياً، وحتى خليجياً، ولكن ضمن شروط. فإذا وقع في الفخّ الإيراني الذي يدفعه إليه البعض، أي فخّ المراهنة على الوقت، فسيجعل من نفسه مَحطّ استهداف أميركي. فماذا سيفعل الحريري؟ هل يبادر إلى تشكيلة «انتحارية» يرفضها الآخرون، ويعتذر، لأنّ تَبعات «الفرار» تبقى أدنى من العقوبات الآتية والصادمة ومن قدرته على التحمُّل؟